عُينت معيدًا بقصر العينى يوم 5 فبراير 1967، فوجدت الجامعة تموج بنشاط سياسى مكثف من الاتحاد الاشتراكى، وهو الحزب السياسى الوحيد المسموح به، وجناحه الشبابى منظمة الشباب، لم أكن عضوًا فى منظمة الشباب لأن العضوية كانت بالاختيار من القيادات ولم يرشحنى أحد، بالرغم من أننى كنت طالبًا نشيطًا وعضوًا فى اتحاد طلبة كلية الطب. كانت الصحافة مؤممة منذ سنوات، وكان التليفزيون ثلاث قنوات مصرية فلم تكن الفضائيات قد ظهرت، ولم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعى ولا كمبيوتر ولا إنترنت ولكن هناك جهاز الإشاعات والنكت المستمر، والتى تحدث عنها عبدالناصر فى خطاباته وقال إنه يعرف جميع النكت المنتشرة وهو مهتم بسماعها. فى هذه الأجواء قيل إنه بلغ عبدالناصر أن هناك حشودًا على الجبهة السورية، ويوم 19 مايو طلبت مصر انسحاب القوات الدولية الموجودة على الحدود بين سيناء وإسرائيل. وفى يوم 22 مايو أعلنت مصر إغلاق مضائق تيران فى وجه الملاحة الإسرائيلية، وأعلن جونسون رئيس أمريكا أن هذا عمل غير قانونى وحضر سكرتير عام الأممالمتحدة يوم 23 مايو إلى القاهرة للتفاهم مع عبدالناصر حول خطورة الأمر، ولكن ناصر صمم على موقفه. تحرك العالم كله ضد مصر بقيادة أمريكا وبريطانيا حتى بدأ الهجوم الإسرائيلى صباح يوم 5 يونيو. سوف أسرد فى المقال واقعتين حضر كلًا منهما أكثر من ألف شخص. خلال الفترة السابقة للحرب كانت مصر كلها تغلى، وكانت نبرة الإعلام فى أعلى مستوى لها، وكان واضحًا أنها تعبر عن مركز قوة واضح لمصر وأن إسرائيل فى خطر حقيقى. وأقيمت لقاءات جماهيرية فى كل أنحاء مصر لتأييد ناصر وتشجيع القوات المسلحة. حضرت اجتماعًا عُقد فى قصر العينى وحضره أعضاء هيئة التدريس والمعيدين فى قاعة الاحتفالات، وكنت أصغر الموجودين، وفى البلكون جلس طلبة منظمة الشباب يهتفون ويدقون بأقدامهم. وحضر على المنصة المتحدث الرسمى باسم الرئيس عبدالناصر، حسن صبرى الخولى، وعميد الكلية وأعضاء هيئة التدريس من زعماء منظمة الشباب الدكتور حسين كامل بهاء الدين والدكتور محمود شريف. وتحدث الجميع بكلمات حماسية. وفى النهاية تحدث المتحدث باسم الرئيس عن أن إسرائيل صغيرة ونحن أقوياء، ثم قال كلمة لا يمكن أن أنساها وهى «إحنا لو الصعايدة خرجوا عليهم بالنبابيت سوف تنتهى المعركة». وفتحت المناقشة وكان المتحدث الوحيد الدكتور حليم دوس، أستاذ الأمراض الباطنة، وكان رجلًا عالمًا محترمًا وهادئًا وذا صوت خفيض، وقال إن عنده قلقًا بالرغم من ثقته فى الجيش المصرى، إلا أنه يسمع أن إسرائيل تسليحها قوى وأن أمريكا تساندها، فرد صبرى الخولى بصوت جهورى وباستخفاف: نحن لا نخاف وموقفنا قوى. وتعالت هتافات منظمة الشباب من البلكون تهتف للرئيس وانتهى الاجتماع. وفى يوم 5 يونيو صباحًا كنت أمر مع الطلاب على الحالات الإكلينيكية فى الثامنة صباحًا فى انتظار حضور الأستاذ لإعطاء المحاضرة. وسمعت أصواتًا مكتومة عرفت فيما بعد أنها كانت ضرب مطار حلوان الحربى. وأثناء المحاضرة دخلت الحكيمة عنبر المرضى وهى تزغرد لأن الراديو أذاع أننا أسقطنا عددًا كبيرًا من الطائرات الإسرائيلية، وحدث هرج ومرج، وأعلن تحويل قسمنا إلى طوارئ جراحة. وطوال اليوم كنا نسمع الإذاعة تعلن تقدم قواتنا وسقوط الطائرات الإسرائيلية. فى المساء استطعت بواسطة راديو ترانزيستور أن أسمع راديو لندن بالرغم من التشويش الشديد يعلن تحطيم سلاح الطيران المصرى بالكامل، وتقدم الجيش الإسرائيلى فى سيناء وكانت أكبر صدمة تلقيتها فى حياتى، وبالطبع لم أنم طوال الليل وأخذت أفكر فى مصر ومستقبلها وتاريخها والمأساة التى حدثت، واعتبرت أن مستقبل مصر انتهى وكان قرارى أن الهجرة هى الحل الوحيد، وهو الحل الذى نفذته بعد شهور مع أكثر من نصف دفعتى، ولكنى لم أستطع أن أستمر بعيدًا عن مصر بالرغم من الإغراءات والحياة المريحة فعدت لأحضر حرب 1973 والعبور العظيم. مرت أيام الحرب الكئيبة بعد أن عرف الجميع بالهزيمة وسمعنا خطاب عبدالناصر بالتنحى فى التليفزيون، وبعد انتهاء الخطاب تلقيت تليفونًا من قصر العينى بأن أتواجد فى قسم أمراض النساء باكرًا الساعة 9 صباحًا. ذهبت فوجدت الجميع هناك. ووصلت إشارة تليفونية بأن يتجه الجميع إلى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، وطلب منى أستاذى د. صادق فودة أن أذهب معه فى سيارته إلى الجامعة ووجدنا حشودًا من جميع أعضاء هيئة التدريس من جميع الكليات، وجلست بجوار أستاذى بينما البلكون العلوى يحتله طلبة منظمة الشباب يهتفون للرئيس. وحضر كبار رجال الاتحاد الاشتراكى، ومنهم أساتذة من كلية الحقوق وخطبوا خطبًا عصماء فى محاولة لتفسير أسباب الهزيمة، ومنها أننا كنا نظن أن العدو سوف يأتى من الشرق فأتى من الغرب، وأن إسرائيل تلقت مساعدات ضخمة، وأننا هُزمنا فى معركة ولم نخسر الحرب. وأثناء التصفيق وضجيج الطلبة وذهول أعضاء هيئة التدريس بسبب حجم الهزيمة الضخمة والمصحوبة بكلمات هزلية من المنصة، انتهى الأمر بأن أعلن المسؤول الكبير فى الاتحاد الاشتراكى من المنصة أنه يوجد عدد ضخم من الأتوبيسات خارج القاعة، وسوف يركبها الجميع لتنقلنا إلى القصر الجمهورى، وهو ما حدث بالفعل. ونزلنا أمام باب القصر الجمهورى، وكانت هناك دفاتر تشريفات كثيرة موضوعة على المناضد فى حديقة القصر، ووقفنا صفًا واحدًا، كلٌّ يكتب اسمه ويوقع لمطالبة الرئيس بعدم التنحى، وكان ذلك بالتوازى مع المظاهرات عند مجلس الشعب وهتافات واحتفال أعضاء مجلس الشعب المسجل صوتًا وصورة، وعدنا إلى جامعة القاهرة منكسى الرؤوس. خلال هذه الساعات الحاسمة بينما الأتوبيسات تنقلنا ذهابًا وعودة كان الجنود المصريون يعودون مشيًا على الأقدام بدلًا من أن تنقلهم الأتوبيسات التى خُصصت للتأييد. وهكذا انتهى الأسبوع الأعظم كارثية فى حياتى وحياة معظم المصريين. قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك