تحلّ علينا الذكرى الأربعين لاستشهاد الدكتور محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف الأسبق، في شهر يوليه من العام 1977م، وتحديدًا في السابع منه، على يد إحدى جماعات التطرف التي اكتظ بها العهد الساداتي، بعد أن أفسحت لها الدولة مجالا للعمل وغضت الطرف عن نشاطاتها، لتنقلب عليها نهايةً. في الثالث من يوليه 1977م، وفي أوجّ انتشار وبزوغ نجم الجماعات المتطرّفة قررت إحدى هذه الجماعات التي أطلقت على نفسها "جماعة المسلمين" وعُرفت إعلاميًّا ب"جماعة التكفير والهجرة" تحت إمارة شكري أحمد مصطفى، القيام بأمر جلل يتردد صداه في أرجاء مؤسسات الدولة عبر اختطاف أحد مسؤوليها. في الساعة الثانية من صباح 4 يوليه، أخذت مجموعة من "جماعة المسلمين" الأوامر من أمير تنظيمها باختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف من منزله الكائن في منطقة حدائق حلوان، وكان عدد المنفذين 5 أفراد، أحدهم ارتدي زي شرطي برتبة نقيب، ودخلوا إلى منزل الشيخ الذهبي بحجة كونهم من رجال الشرطة، واقتادوه عنوة إلى سيارتهم، وركبوا جميعا باستثناء أحدهم كان في سيارة أخرى، لم تسعفه في الهرب، ليتمكن أسرة الشيخ وجيرانه من تقييده، وكان أحد الخيوط المهمّة التي استطاع الأمن وقتها التعرف على هويّة الخاطفين عبرها. الذهبي.. أستاذ التفسير وعلوم القرآن الشيخ الكبير ابن الثالثة والستين من العمر، مولود في العام 1915م، بمدينة مطوبس بمحافظة كفر الشيخ. التحق بكلية الشريعة جامعة الأزهر وتخرج فيها عام 1939م. وهو من الجيل الأوّل الذي تعلّم في الأزهر على النظام الحديث، فتقدّم برسالته التي تحمل عنوان "التفسير والمفسّرون" وحصل بها على الدرجة العالِمِيّة (الدكتوراه)، بدرجة أستاذ في علوم القرآن عام 1946م بكلّية أصول الدين. عمِل الدكتور الذهبي أستاذًا للتفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر، ثمّ عميدًا لكليّة أصول الدين، ثمّ أمينًا عامًّا لمجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وفي أبريل عام 1975م أصبح وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر حتى نوفمبر 1976م، في حكومة ممدوح سالم. وفي فترة تولّيه منصب وزير الأوقاف كانت الجماعات الإسلامية تنتشر بشكل فجّ وأصبحت تصدّر للناس خطابًا فحواه تكفير المجتمع ووصفه بالجاهلية، فأصدر شكري مصطفى زعيم "جماعة المسلمين" كتابه "التوسّمات" الذي أخذ شكل منهجي في طرح مجموعة من القضايا عالجها بطريقة راديكالية، لاقت رواجًا وكان نتاجها جذب فئة كبيرة من الشباب خاصّة داخل الجامعات ما بين عام 1974م إلى 1977م. فما كان من الشيخ الذهبي وهو العالم الأزهري المتمكن في علوم المعقول والمنقول إلا أن تصدى لهذه الأفكار الذي حواها هذا الكتاب وغيره ككتاب "الخلافة" الذي صنفه شكري لطرح نفس فكرة العنوان. وجعل منهما المنهج الدَّرسي لمُتّبعي الجماعة إضافة إلى القرآن والسنّة وحسب. عقد المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف وحضر الشيخ الذهبي مُحاضرًا ومُناقشًا، وحضر مجموعة من الشباب المتأثرين بهذه الأفكار التي كان جملتها يدور حول حرمة التعليم، وتحريم صلاة الجمعة مادامت الخلافة غائبة، وتحريم مرتب الحكومة بحجة أنها حكومة كافرة لا تحكم بغير ما أنزل الله، وأنّ الخدمة العسكرية في الجيش حرام بحجة أن في ذلك عون للحاكم الطاغية. فانبرى الشيخ الذهبي يرد كلّ فرع لأصله مناقشًا الأفكار، فقام أحد الشباب له قائلا للشيخ الذهبي: أنت دخلت معنا في معركة فاحذر! فقال له الشيخ: ليست معركة، بل نناقش الأفكار بالأفكار. فقال له الشاب: بل هي معركة. وانقضى المؤتمر على ذلك، ولم يتَعرّض أحد لهؤلاء الشباب بأي تضييق أو تساؤلات. وهذا يفسر ما قاله علي فرّاج الأمير السابق في الجماعة ومسؤول محافظة الشرقية، في شهادته، التي يقول فيها: أن فترة السبعينات كانت حركتنا لا يحاسبنا عليها الأمن، وتجاوز لنا عن كثير من الأفعال. الشيخ والأمير.. المنطلقات والدوافع كان أمير الجماعة شكري أحمد مصطفى أحد المقبوض عليهم في خلية الإخوان في قضية سنة 65 التي كان يترأسها سيد قطب، وتأثّر شكري داخل السجن بقدر كبير من أفكار علي عبده اسماعيل، الذي اتخذ من العزلة والانفراد عن المجتمع منهجًا له -بناء على تأويلات ساذجة وجدت هوًى لدى قطاع كبير من المنحرفين والمتطرفين فكريًّا في مقدمتهم شكري- وكذلك بكتابات سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، حول الحاكمية والجاهلية والخلافة وغيرها. خرج شكري من السجن ضمن من شملهم العفو الرئاسي للسادات محمّلا بهذه الأفكار، فكوّن جماعته، وبعد بزوغ نجمها وزيع صيتها، أمر قائد الجماعة شكري مصطفى بإنشاء مجموعة أطلق عليها "الكتيبة الخضراء" –تيمّنًا باسم الكتيبة الأولى التي أطلقها الصحابي عمرو بن العاص في دخوله مصر- وأخذت على عاتقها مهمّة تصفية الخصوم، خاصة التاركين للجماعة بعد الدخول فيها. في هذه الأثناء تولّت وزارة الأوقاف طبع ونشر كتاب الشيخ الذهبي الذي حمل عنوان "قبسات من هدي الإسلام" وناقش جملة الأفكار التي دعت لها هذه الجماعة، فما كان من الجماعة إلا أن قامت باختطاف الشيخ، وأعلنت في ظهيرة اليوم التالي لعملية الخطف مسؤوليتها عنها، وكانت مطالبها الآتي: «الإفراج الفورى عن أعضاء الجماعة المقبوض عليهم وكذلك المحكوم عليهم فى قضايا سابقة، ودفع مائتى ألف جنيه كفدية، واعتذار الصحافة المصرية عما نشرته من إساءات فى حق الجماعة، وكذلك نشر كتاب شكرى مصطفى «الخلافة» على حلقات بالصفحة الأولي فى الصحف اليومية، وتسليم الطفلة سمية ابنة رجب عمر أحد أعضاء الجماعة المنشقين عليها لأمها التى تمسكت بعضويتها فى الجماعة ورفضت الذهاب مع زوجها فاعتبرت الجماعة الزوج المنشق غير أهل للأبوة ويجب حرمانه من طفلته». استشهاد الشيخ أوكلت الحكومة إلى أحد المحامين التفاوض مع الجماعة حول المطالب، وفي أثناء ذلك وبالصدفة المحضة، تمكنت أجهزة الأمن من التوصل إلى أحد الشقق التي تقطنها إحدى المجموعات التابعة للجماعة، ولما وصلت حملة الشرطة إلى المكان، قبضت على أحد أفراد التنظم وبيده رسالة حاول ابتلاعها لدى رؤيته ضباط الشرطة، وبتصفّح الرسالة الورقيّة، وُجد مكتوب بها، سطور بصيغة مشفّرة من أمير الجماعة يقول فيها: " تنفيذا للدور الذى كلفتم به نرجو أن تعدو خيشا ونشادر وعربة يد لنقل البضاعة من المكان المعروف إلى ترعة الزمر"، فعلمت الأجهزة أنّ المقصود بالبضاعة هو الشيخ الذهبي، وبالتحريات توصلوا إلى مكان الاحتجاز. في إحدى الفيلات الكائنة بشارع فاطمة رشدي بمنطقة الهرم، وفي إحدى غرفها، وجد جثمان الشيخ الذهبي مكبل الأيدي والأرجل، على عينيه عصابة بيضاء، وأحد عينيه مفرغة إثر تعرضها لطلق ناري، وبجواره رصاصة فارغة، ونظارته الطبيّة، غارقًا في دمائه الزكيّة. وباعترافات المتهمين علمت النيابة أنّ منفّذ عملية القتل هو أحد ضباط الشرطة المفصولين وهو طارق عبد العليم، الذي انضمّ إلى الجماعة مؤخّرًا، فتمكنت الأجهزة من القبض عليه، وعلى زعيم الجماعة شكري أحمد مصطفى في 8 يوليه. وفي 23 أغسطس 1977م عقدت أوّل محاكمة لقيادات الجماعة المتّهمين بخطف وقتل الوزير الدكتور محمد حسين الذهبي، في القضيّة 6 لسنة 1977م أمن دولة عليا، وفي 30 نوفمبر من نفس السنة حكمت المحكمة حكمها على الجُناة.