في مثل هذا اليوم منذ خمسة وعشرين عاما، اغتيل الكاتب والمفكر المصري فرج فودة (1945- 1992). كان يهم بالخروج من مكتبه بحي مصر الجديدة، حين قام شخصان يركبان دراجة نارية بإطلاق الرصاص عليه من بندقية آلية. أصيب فرج فودة بإصابات بالغة في الكبد والأمعاء، وظل الأطباء يحاولون طوال ست ساعات إنقاذه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة. وفي نفس اليوم الذي مات فيه فرج فودة، نشرت الجماعة الإسلامية بيانا تقر فيه بمسؤوليتها عن مقتله وأنها قتلته تطبيقا لفتوى الشيخ عمر عبد الرحمن، واعترف المتهمون أمام النيابة العامة أنهم تلقوا تكليفا من القيادي بالجماعة صفوت عبد الغني باغتيال فرج فودة عبر محاميه، حيث كان صفوت عبد الغني محبوسا بتهمة المشاركة في اغتيال رئيس مجلس الشعب الأسبق رفعت المحجوب. وأثناء نظر قضية اغتيال فرج فودة، أعلن الشيخ محمد الغزالي، الذي استدعته المحكمة لسماع شهادته، أن فرج فودة مرتد وعقوبة المرتد هي القتل، والخطأ الوحيد الذى وقع فيه الجناة أنهم نفذوا العقوبة التي كان يجب على الدولة أن تقوم بتنفيذها. وكان معنى شهادته أن الدولة هي المقصرة وهي التي يجب أن تلام، لأنها لا تطبق الشريعة ولم تقم الحد على فرج فودة، وأن نشكر هؤلاء القتلة لأنهم طبقوها، ولأنهم رأوا المنكر فغيروه بأيديهم وأقاموا الحد على المرتد. لم تكن فتوى الشيخ عمر عبد الرحمن ولا شهادة الشيخ محمد الغزالي، اجتهادا خاصا منهما، ولم يدفع ثمنها فرج فودة وحده، وإنما هي الثقافة التي تربى عليها الكثيرون ودفع ثمنها الكثيرون ولايزال مجتمعنا البائس يدفع ثمنها حتى الآن. كان اغتيال فرج فودة رصاصة موجهة إلى العقل والفكر والرأي، ولم تكن الرصاصات القاتلة موجهة إلى فرج فودة وحده، وإنما كانت موجهة إلى كل مثقف، كل مفكر، كل صاحب موقف، وكل من يعلن أنه يريد أن يقول ويتكلم. وعلى عكس ما كانوا يتصورون؛ فقد تزايد الحديث عن فرج فودة بعد اغتياله، وجاء من يبحث عن مقالاته وكتبه وعما سطره وسجله من فكر. لم أعرف فرج فودة إلا قبل اغتياله بحوالي شهرين، ولم أقرأ له سوى عدة مقالات في مجلة أكتوبر، لكن كتاباته تلك جذبت انتباهي بقوة ووجدت فيها جرأة وشجاعة لم أعهدهما من قبل في الصحافة المصرية، وجعلتني أبحث عن كتبه وأعماله الأخرى وأقتنيها، وقد أصابني مقتله بصدمة نفسية كبيرة، وأخذت أسأل نفسي: لما يقتل كاتب مسالم لا يحمل في يده سوى قلمه؟ ما الذي يدفع شخص ما لقتل إنسان لا يعرفه؟ إنسان لم يفعل شيئا سوى أن كتب بإخلاص وعبر عن رأيه بصدق. والإجابة أن هناك ثلاثة أنواع من الكتاب: كاتب لا يعيش عصره، وكاتب يعيش عصره، وكاتب يسبق عصره. الكاتب الذي لا يعيش عصره ينتمي إلى الماضي ويعيش في الأوهام والخيال، والكاتب الذي يعيش عصره ينشغل بمواجهة مشاكل الواقع، ويظل مشدودا إلى ما تحت قدميه، وقد ينجح مرحليا ولكنه يظل بعيدا عن الوصول إلى الرؤية الممتدة التي تفكر للحاضر وتمهد للمستقبل، وتلك مهمة الكاتب الذي يسبق عصره. ودائما ما يحظى الكاتب الذي يسبق عصره بكراهية قصار النظر والمنتفعين بالعودة للوراء، الذين يعيشون في الماضي، والذين يعملون على تحجيم العقل، وأولئك قد يملكون بعض الحاضر، ولكن لا مكان لهم في المستقبل، قد يحتلون العناوين الرئيسية في صحف اليوم، ولكن يبخل عليهم التاريخ ببعض السطور، بينما يحتفل بأولئك المفكرين أصحاب المبادئ والدعوات العظيمة التي تبشر بالمستقبل والتقدم والحرية والتنوير، وفرج فودة كان واحدا من هؤلاء المفكرين الذين يسبقون عصرهم. لقد انشغل فرج فودة بهموم عصره وقضايا وطنه، ولكن هذا الانشغال لم يصرفه عن المستقبل، بل إن الحزب الذي كان يحلم به ويسعى لتأسيسه يحمل اسم "المستقبل". وكانت مقالاته تفكر لليوم والغد، ولذلك فإن كتابات فرج فودة لم تذهب إلى متحف التاريخ، بل تصلح للحاضر والمستقبل؛ لأنها نتاج عقلية تسبق عصرها. كان فرج فودة حالة فريدة ورمزا جاء مبكرا ورحل مبكرا، وسيأتى يوم تعتذر فيه مصر كلها لفرج فودة؛ لأنه استطاع فى وقت مبكر جدا أن يرى أمورا لم تكن واضحة للكثيرين. لقد قرأ فرج فودة أحوال الواقع والمرحلة ببصيرة نادرة، ويكفيه من قوة الفكر ورجاحة العقل ما توصل إليه بشأن الوضع الذي نعيشه الآن ونعاني منه جميعا قبل وقوعه بأكثر من عشرين عاما. ففي مقالة بعنوان "حديث عن آفاق المستقبل"، نُشرت بمجلة أكتوبر قبل وفاته بشهور، كتب فرج فودة يقول: "في غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية، ولن ينتزع السلطة الدينية من مواقعها إلا الانقلاب العسكري، الذي يسلم الأمور بدوره، بعد زمن يطول أو يقصر إلى سلة دينية جديدة وهكذا، وأحيانا يختصر البعض الطريق فيضعون العمامة فوق الزي العسكري، كما حدث ويحدث في السودان. الخروج من هذه الدائرة المفرغة ضرورة، والتواصل مع الشرعية الدستورية مسألة حياة أو موت، والشرعية الدستورية لا تتسع لهذا أو لذاك فكلاهما خطر عليها، ومدمر لها، والذي يفضل أحد البديلين على الآخر كمن يستجير من الرمضاء بالنار". كان فرج فودة كاتبا شجاعا ومفكرا جريئا لا يبالي إن كان في جانب، والجميع في جانب آخر، ولا يحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم. ولا يجزع إن خذله من يؤمن بما يقول، ولا يفزع إن هاجمه من يفزع لما يقول. وإنما كان يؤرقه أشد الأرق أن لا تصل رسالته إلى من قصد، فقد كان يخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم. رحم الله شهيد الفكر والتنوير فرج فودة.