دافع بقوة عن الدولة المدنية والحقوق العامة بينما يدنو ضوء النهار من الانزواء تاركا الأرض لعتمة الليل تفرض قانونها علي الحياة و في تمام السابعة إلا الربع من مساء الثامن من يونيو عام 1992 كان الدكتور فرج فوده خارجا من مكتبه بمدينة نصر بصحبة ولده الأصغر أحمد وأحد أصدقائه، وإذا بالرصاص يخترق جسد الرجل فتسيل دماء ذكية علي صفحة العقل ،بيد شخصين يركبان دراجة بخارية ،فأصيب ابنه أحمد وصديقه إصابات طفيفة. بينما أصيب فرج فوده إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، فشلت معها محاولات الأطباء لست ساعات في إنقاذ حياته.لنردد مع ممدوح عدوان: أنا الذي دمه في الأرض منتشر كأنما هو نهر في الفلا جاري قتلت ظلماً وغدراً بل وتضحية عنكم بأيدي وحوش كلها ضاري فاستشهد فرج فوده فداء للوطن وإرادة التقدم والرقي والحرية، ليظل بيننا رمزا للتنوير والحداثة وإعمال العقل. هكذا اشتدت علي رقاب الوطن قوي الظلم وجحافل الظلام وتكاثرت الأيدي الباطشة والقلوب الغليظة والعقول المنحرفة علي شعاع من نور حاول أن يكسر جدار الصمت ويقشع ستائر الظلام من فوق أعيننا لعلنا نكتشف العمق الحضاري الذي فينا والقدرة الهائلة علي العطاء والتسامح. السيرة والمسيرة ولد فرج علي فوده في الزرقا بمحافظة دمياط في 20 أغسطس 1945، وتخرج في كلية الزراعة في 1967، وحصل علي ماجستير العلوم الزراعية عام 1975، ثم دكتوراة الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس عام 1981، وعمل مدرسا ثم خبيرا اقتصاديا ثم مالكا ومديرا لمجموعة فوده للاستثمار، وله من الأبناء ولدان وبنتان. مارس العمل العام منذ أوائل الثمانينيات وانشغل منذ البداية بقضايا الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان والحريات وقضايا الإسلام السياسي. كان فوده مفكرا ليبراليا يؤمن بقيم الحداثة والتنوير ويرنو إلي تقدم مجتمعه في ظل مناخ التسامح والعدالة وحرية التفكير. كانت مؤلفات ومقالات ومحاورات فرج فوده تمثل تحديا كبيرا لقوي الإسلام السياسي، حيث امتلك من قوة الحجة وسعة الثقافة ورجاحة العقل وسلامة المنطق ما جعلهم لا يطيقون له قولا ولا يحتملون مواجهة أحاجيه.فظل حتي اغتياله يواجههم في كل موقعة وينازلهم في أكثر من محفل بجرأة فرسان العصور الوسطي و حكمة الفلاسفة وبلاغة الفقهاء. فاصدر في مواجهتهم عدة كتب لا تزال تمثل حجر الزاوية في ضحد أفكار الإسلام السياسي وهي " الحقيقة الغائبة- زواج المتعة - حوارات حول الشريعة - الطائفية إلي أين ؟- الملعوب - نكون أو لا نكون - الوفد والمستقبل - حتي لا يكون كلاما في الهواء - النذير - الإرهاب - حوار حول العلمانية - قبل السقوط. فتوي القتل ظهر فرج فوده في ظل منعطف خطير مرت به مصر في الربع الأخير من القرن العشرين ، حيث امتدت أيادي التطرف الإسلامي إلي رقاب الناس وأموال وممتلكات الأقباط وتكفير المجتمع والحياة المدنية ، فكان فوده واحدا من كتيبة المناضلين دفاعا عن الدولة المدنية والحقوق العامة ، ومحاربا لهذا التيار الذي بدأ يتفشي كالسرطان في جسد الأمة بعقليته الفاشية الاقصائية التي تحتكر الحكم بما أنزل الله . كان فرج فوده مقاتلا شرسا ضاقت به صدور هؤلاء القتلة ، فأفتوا بقتله ، وصرحت جماعة الجهاد الإسلامي بقيادة زعيمها عمر عبد الرحمن بضرورة قتل فرج فوده وتطبيق حد الردة عليه لكونه كافرا أنكر معلوما من الدين بالضرورة وتجرأ علي العقيدة خاصة في كتابه الحقيقة الغائبة.ومواصلة نقده واختلافه مع جميع رموز الإسلام السياسي حينئذ أمثال صلاح أبو إسماعيل ومحمد الغزالي الذي لعب دورا محوريا في قتله بعد المناظرة الشهيرة بمعرض الكتاب ومحمد عمارة وعبد الحميد كشك وفهمي هويدي .ولكن فوده لم يكن المفكر المصري الوحيد الذي تم تكفيره فهناك مجموعة كبيرة من الذين تصدروا قائمة الاغتيالات المادية والمعنوية لدي الجماعات الإسلامية باختلاف تنظيماتها أمثال سعيد العشماوي وسيد القمني وخليل عبد الكريم واحمد صبحي منصور ورفعت السعيد ونوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد. لقد كانت الحملة الشرسة علي العقل المصري ومحاولة تكميم الافواة الناطقة وتحجيب العقول المستنيرة في أوج قوتها ، وفي قلب كل هذا الصخب الهائج ضد المستنيرين كان فرج فوده يزداد تألقا ووهجا وإبداعا وليس أدل علي ذلك من قدرته علي كسب المعركة /المناظرة " مصر بين الدولة الدينية والمدنية" التي كانت بينه والدكتور محمد احمد خلف الله من جهة والشيخ الغزالي والدكتور محمد عمارة والمستشار مأمون الهضيبي من جهة أخري في معرض القاهرة الدولي للكتاب" يناير 1992 ووسط أكثر من ثلاثين ألفا معظمهم من أنصار الإسلام السياسي استطاع فرج فوده أن ينازلهم جميعا فكرا وثباتا وحجة وبيانا وفصاحة وبلاغة. حينئذ أدرك الجميع أن رجلا كهذا ليس له أن يبقي حيا ، وبعد أن فشلت الكلمات فليتكلم الرصاص ، وبعد أن أطبق عليهم بيوتهم العنكبوتية فلا بديل عن قتل نفس حرم الله قتلها. قانون الغاب بعد القبض علي قتلة فرج فوده ومثولهم أمام المحكمة صارت قضية رأي عام انقسمت حولها الآراء بين مؤيد ومعارض، وكانت فرصة كبيرة لإحياء أفكار متعددة وكشف الغطاء عما يضمر تيار الإسلام السياسي للمجتمع وللعقل وللآراء المخالفة، فاستمعت المحكمة علي مدي 34 جلسة إلي 30 شاهد إثبات ، وتناولت الأقلام ما في القضية من أبعاد وموضوعات تهم مستقبل الوطن في ظل هذا النوع من الإرهاب الذي يطبق قانون الغاب باسم الإسلام وهو منه بريء.ولكن ما يهمنا في هذا الصدد رأي اثنين من رموز التطرف ، فحينما سئل الغزالي في المحكمة عن أفكار فرج فوده قال أنه " مرتد وجب قتله" ليس فقط بل أجاز بأن يقوم أحد أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان افتئتاً علي حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة ، أي لا يجوز قتل أو عقاب من قتل فرج فوده. جدير بالذكر أن القاتل حينما سئل لماذا اغتلت فرج فوده فرد قائلا : لأنه كافر . فسئل: ومن أي من كتبه عرفت أنه كافر؟ فرد قائلا: أنا لم اقرأ كتبه. فسئل : كيف ؟ فرد قائلا : أنا لا اقرأ ولا اكتب.!! هذا القاتل الذي لا يعرف القراءة والكتابة عرف كيف يقتل شخصا لا يعرفه وليس بينهما أي علاقة ,هو قتله فقط لإعلاء كلمة الإسلام ، إسلامهم هم ،هذا القاتل هو الذي قال أيضا بعد شهادة الشيخ الغزالي: هذه الشهادة تكفيني ولو تم إعدامي عشرات المرات.هذا هو الغزالي الذي خذلته حجته وأقعده عقله في المناظرة وأنصفه شاب لا يجيد القراءة وسبحان من أمرنا بتدبر آيات الكون.العجيب أن الغزالي حصل بعد أربع سنوات من هذه الوقائع عام 1996علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.أما الشهادة الثانية فهي لرجل من علماء الأزهر، أزهر حسن العطار والطهطاوي ومحمد عبده وعبد المتعال الصعيدي ،هو الدكتور محمود مزروعة الذي نافس قادة الإسلام السياسي وزايد عليهم في مواقفهم المتطرفة، وكان يشغل وقتها رئيسا لقسم العقائد والأديان بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر، وعمل أستاذا في جامعة بنغازي، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلامية بإسلام آباد، وجامعة قطر، حيث أعلن أمام المحكمة عن أن "فرج فوده" مرتد، ويجب علي آحاد الأمة تنفيذ حد الردة فيه إذا لم يقم ولي الأمر بتنفيذ ذلك.وقال في حوار معه بجريدة العالم الإسلامي ما أخطر من حديث الغزالي :" مثل هذا الرجل مرتد بإجماع المسلمين، ولا يحتاج الأمر إلي هيئة تحكمُ بارتداده" فإذا كان الغزالي يرفض معاقبة المحكمة للقاتل لأنه نفذ حكم الله ، فإن مرزوعة يرفض مثول القاتل أصلا أمام المحكمة ، فلا يجوز لها الحكم فيما اجمع عليه علماء الأمة. المشروع الفكري أهم حقيقة أقرها فرج فوده في تقديري هي كشفه خطوات انتقال الإسلام السياسي من الخطاب الديني إلي السياسي ، هذا الانتقال في تقديري هو أخطر ما يطرحه هذا التيار، ووسيلة الانتقال هنا هي الشريعة الإسلامية التي توظف كجسر تواصل بين الإسلام كدين والإسلام ك "دولة "، بين النص الثابت والواقع المتغير ، كيف يتحول النص إلي برنامج سياسي تحتكره جماعة من الناس هذا هو لب القضية الفكرية عند فوده، ربما دارت معظم أو كل مقالاته وكتاباته حول هذه الفكرة بشكل أو بآخر، وإن اختلفت الصياغات والتعبيرات من قبل هؤلاء بين الدعوة لدولة دينية أو دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية أو القول بمدنية دولة الخلافة .. الخ. أخيرا .. هي رسالة في موعدها سجلها فرج فوده في كتابه نكون أو لا نكون وبعث بها إلي الأجيال القادمة ، يقول: " يقينا سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ و أكثر استنارة. لكنه سوف يصدر في مناخ آخر أكثر حرية و انطلاقا و تفتحا . و لعله من حقنا عليهم أن نذكرهم أنهم مدينون لنا بهذا المناخ. وسوف يكتشفون عندما يقلبون أوراقنا و نحن ذكري أننا دفعنا الثمن " نعم وبكل يقين دفعتم الثمن غاليا .. ولكن يا شهيدنا الغالي بعد تسعة عشر عاما من اغتيالك هل صرنا أكثر استنارة وأكثر حرية .. ؟ يبدو أن فاتورة الاستنارة والحرية في حاجة إلي مزيد من الشهداء.. ويبدو أننا صرنا علي الحياة شهداء للعدل والحرية ، نقتفي أثرك ونتبع خطاك لعلنا نصل إلي بعض منزلتك التي اعتليت شهيدا للتنوير وشهيدا فينا جميعا, شاهدا علينا حين نبقي عليك حيا في ضمائرنا وأقلامنا وعقولنا ،عشت الشهيد الذي فينا ومت فقتلت بموتك جبنا كاد يقتلنا.