كان الرجل يتحدث عن عنوان المناظرة «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية» كان يطرح رؤية مفادها أن تدشين مبادئ الدولة المدنية هو الأولي بالاتباع بدلاً من الدخول في دوامة من المصطلحات الفضفاضة عن الدولة الدينية لا تحمل في حد ذاتها توجهات محددة. وكانت كلماته اللاذعة كفيلة بأن تحيل حالات الوجوم التي ارتسمت فوقهم إلي غضب بعد أن نجح في أن ينتزع ضحكات أشبه بالصرخات من الحاضرين. قال المتحدث إن الدليل علي حتمية وجود الدولة المدنية هوالمناظرة التي تحدث الآن ففي الدولة المدنية يمكن أن نجلس معا ونتحاور وتخرجوا من الحوار ورءوسكم لا تزال فوق أعناقهم! 8 يونيو 1992 كانت عقارب الساعة تشير إلي السادسة و45 دقيقة والرجل الذي أثار الجلبة قبل 5 شهور «د.فرج فودة» يهم بالخروج من مكتبه بشارع أسماء فهمي بمدينة نصر كان في صحبته ابنه الصغير وصديق له. في هذه الأثناء مر من أمام الرجل ورفاقه شابان يركبان دراجة نارية تبين فيما بعد أنهما ينتميان للجماعة الإسلامية ليطلق أحدهما النار من بندقية آلية كانت في حوزته صوب الرجل اتجهت بعض الطلقات نحو كبده والأخري نحو أمعائه ليلفظ أنفاسه الأخيرة بعد 6 ساعات كاملة قضاها الأطباء في محاولة إنقاذه. داخل قاعة المحاكمة سأل القاضي القاتل: لماذا ؟ فرج فودة؟ - لأنه كافر ومن أي كتبه عرفت أنه كافر؟ - أنا لم أقرأ كتبه. كيف؟ - أنا لا أقرأ و لا أكتب. لم تكن كلمات القاتل الجاهل الذي استحل دم فودة من فتوي لشيخه عمر عبدالرحمن صاحب فتوي إهدار دم الرئيس السادات أيضا هي الصدمة الوحيدة بالقضية فدفاع المتهمين طلب استدعاء الشيخ الغزالي أحد محاوري فودة بمعرض الكتاب للشهادة وربما هنا وجد الشيخ أنه يمكن أن يقتص من غريمه في قبره بعد أن فشل في النيل من أفكاره حال حياته! راح الشيخ الغزالي يغزل علي نفس المنوال الذي غزل عليه عمر عبدالرحمن وقال إن فرج فودة «مرتد» والمرتد يجب قتله! سألوه: أليس هذا من حق أولي الأمر؟ فقال: يجوز لأفراد الأمة إقامة الحدود عند تعطيلها وإن كان هذا يعد افتئاتاً علي حق السلطة. قالوا له: وما عقوبة الافتئات؟ فأجاب: ليس له عقوبة! ولم يكن كذلك موقف الغزالي ببعيد عن موقف مرشد جماعة الإخوان «المحظورة» مأمون الهضيبي المتحدث الثاني في المناظرة فقد دأب الهضيبي علي أن يهاجم كل من فودة والدكتور الراحل فؤاد زكريا قائلاً إن الاثنين يرددون كلام أعداء الإسلام في الخارج ربنا يهديهم وإن ما هداهمش ربنا ياخدهم! لكن لماذا قتلوه؟ لماذا أرادوا أن يقطعوا رأسه هو أراد أن تبقي رءوسهم فوق أعناقهم بعد أن فشلوا في مواجهة أفكاره! والإجابة بمنتهي البساطة هي أن الرقم 7 هو سر اللغز ففودة استطاع خلال المناظرة أن يقيم 7 حجج علي دعاة الدولة الدينية كانت كل واحدة منها كفيلة بأن تطيح برأسه عشرات المرات في وقت كان فيه المد المتطرف في أقوي عنفوانه. والحجج السبع هي أن تيار الإسلام السياسي لا يملك برنامجاً سياسياً معروفاً ولم يقدم بدائل وأطروحات جدية يمكن أن تساهم في حل أي من الأزمات. والثانية هي أنهم يقولون أن الخلافة الإسلامية حكمت بالشريعة 1300 عام إلي أن تم الاختراق الغربي للمجتمعات الشرقية متجاهلين أن ما تعرف بعصور الخلافة لم تشهد إلا حكاماً سلطويين استعبدوا شعوبهم ولم يخرج عن هذا السياق سوي الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز! والثالثة هي أن الواقع الحالي يشهد نماذج مختلفة للدولة الدينية منها النموذج السعودي والنموذج السوداني في وقت «جعفر نميري» والنموذج الإيراني «الخوميني» فأي النماذج الثلاثة يسعي إليها دعاة الدولة الدينية في مصر رغم ما يشوب هذه التجارب من عيوب؟ والحجة الرابعة هي أن دعاة التيار وهم لا يزالون علي البر وخارج إطار السلطة اسخنوا مصر دماراً وتمزيقاً ودماء وأشلاء وزرعاً للفتن الطائفية وسطوا علي المحلات العامة فماذا يمكن أن يفعلوا إذا أصبحوا هم الحكام بالفعل؟ بئس الخواتيم بالفعل! والحجة الخامسة فهي أن المناظرة التي شهدت حواراً مفتوحاً بين أنصار التيارين هي إحدي ثمار الدولة المدنية يدخلها أطرافها وهم آمنون علي أنفسهم وأنهم سوف يعبرون عن آرائهم دون مصادرة أما الواقع داخل الدولة الدينية فهو للقمع والاقصاء. والحجة السادسة هي أنه مهما قيل عن نسب تمثيل الأقباط والمسلمين بها وأن المسلمين هم الأكثرية فهذا هو طريق دعاة الدولة الدينية أما دعاة الدولة المدنية فلا يعرفون سوي هوية المواطنة. والسابعة هي أن أصحاب الإسلام السياسي يوظفون الفتوي كيفما يشاءون فمنهم من ارتفع بمن نادي بالسلام - يقصد الرئيس السادات إلي عنان السماء بالفتوي ومنهم من طالب - بقتله بالفتوي أيضا لكن الإسلام أعلي وأعز من أن نوظفه لحساب جماعات أو أطياف. انتهت حجج فودة التي ألجمت خصومه ودفعتهم إلي إهدار دمه لكن في واقع الأمر لم يكن هذا المصير بعيداً عن رؤيته كثيراً فبين العديد من سطور كتاباته يمكن أن نلحظ أنه كان يدرك جيداً أنه دخل إلي وكر للذئاب وأن نهايته بهذه الطريقة واردة. «يا مصر يعلم الله أني أحبك بلا حدود وأتعشقك حتي آخر قطرة من دمي وأتعبد من محرابك بكل ذرة من كياني وأدفع حياتي كلها ثمناً لبقائك متماسكة» من كتاب «قبل السقوط». «إلي زملاء ولدي أحمد الذين رفضوا حضورهم عيد ميلاده تصديقا لمقولة آبائهم عني إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم وأن ما فعلوه كان أقسي علي من رصاص جيل آبائهم»! أهداؤه لكتاب «نكون أو لا نكون».