وصل شيخ الإذاعيين علي خليل، إلى دار الإذاعة مصطحبا ضابطا طيارا إنجليزيا، للقاء الشيخ، بعد أن ساقت المقادير صوت الخلود إليه أثناء إقامته في كندا، فقرر الرحيل إلى القاهرة ليرى بعينيه صاحب هذا الصوت الذي ملك قلبه وسيطر على وجدانه، بعد أن تنافست الإذاعات العالمية الكبرى: لندن وباريس وبرلين، في إذاعة القرآن الكريم بصوته خلال سنوات الحرب العالمية الثانية لتجذب المستمعين إلى نشراتها وبرامجها.. فلما وقعت عينا الضابط على صاحب الصوت، ورأى جسده النحيل، وعلم أنه ضرير لم يملك نفسه من البكاء، ثم كان هذا اللقاء سببا لإسلامه. الشيخ محمد رفعت، أشهر قراء القرآن في القرن العشرين، صاحب الصوت النادر الساحر المذهل، عاش ومات زاهدا فقيرا، لكنه كان أغنى الناس بحنجرته الفريده، وفنه الذي لا يبارى ولا يقلد.. في حي المغربلين بالدرب الأحمر ولد، طفلا جميلا تتلألأ عيناه الواسعتان ببريق يخطف الأبصار.. فلم يتم سنتين حتى أصيب بمرض أذهب نور بصره دون أن ينال من بصيرته. في كتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب حفظ الطفل الموهوب القرآن الكريم قبل أن يتم العاشرة، وتعلم أحكام التجويد، ثم أتقن علم القراءات.. فلما بلغ خمسة عشر عاما عين قارئا للسورة بنفس المسجد، وكان يوم الجمعة لقاؤه الأسبوعي مع الجمهور الذي تزدحم به الطرقات والشوارع المجاورة، ويعيش المستمعون في حالة اندماج كامل مع صوت الشيخ، فيبكي أكثرهم، ويصاب بعضهم بالإغماء.. ورغم شهرته التي طبقت الآفاق، ظل رفعت وفيا لهذا المسجد الصغير الذي حفظ فيه القرآن، فاستمر في قراءة الجمعة به ثلاثين عاما متصلة. أدرك الشيخ رفعت مبكرا أهمية الدراية الموسيقية، فدرس مقامات النغم الشرقي، ثم أخذ ينهل من الموسيقى الغربية، منصتا لأعمال بيتهوفن وموزارت وفاجنر، ووظف هذه الدراية بصوته المعجز لخدمة آيات القرآن، وإخراجها في أداء راق مؤثر يخلب الألباب، ويشعر المستمع أنه يحلق في سماوات روحية، وأجواء قدسية. مثل عام 1934 محطة هامة في حياة الشيخ، فقد أطلقت الحكومة أول إذاعة رسمية مصرية، وكان رفعت أول صوت ينطلق من الإذاعة، مرتلا قوله تعالى "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، وتعاقدت الإذاعة مع الشيخ رفعت لتلاوة القرآن مرتين أسبوعيا مساء الاثنين والجمعة، لمدة 45 دقيقة، مقابل خمسة جنيهات عن كل تلاوة. ولأن الشيخ كان شديد التحفظ في كل ما يخص القرآن، لم يقبل القراءة للإذاعة إلا بعد أن استفتى كبار علماء الأزهر في هذا الشأن، وأكدوا له أن بث التلاوة في الإذاعة جائز، بل يعد خدمة جليلة للدين وللقرآن. وكان صوت رفعت سببا للإقبال على شراء أجهزة الراديو، وازدحام المقاهي وبيوت الأعيان بالرواد، وعرفت القاهرة لأول مرة ما يسمى بمقاهي الشيخ رفعت، التي فرضت على روادها نظاما صارما وقت بث التلاوة على الهواء، فلم يكن مسموحا فيها بألعاب الورق أو الطاولة، أو إحداث أي ضجة، كما كان عمالها يتوقفون تماما عن تلبية رغبات الزبائن. عبر الإذاعة، وصل صوت رفعت إلى آفاق أوسع، وطلبت هيئة الإذاعة البريطانية تسجيل تلاوات خاصة بها، واختارت سورة مريم ليتلوها الشيخ في أول تعاقد بينه وبين الهيئة العريقة التي قدرت أجره عن تلاوة نصف ساعة بخمسين جنيها، مع منحه خمسة جنيهات عن كل مرة تبث فيها التسجيل إلى المستمعين. أصبح منزل الشيخ رفعت قبلة لأعلام الفن والأدب، ومن بينهم أم كلثوم وعبد الوهاب وأحمد رامي وليلى مراد وفتحية أحمد ونجيب الريحاني ومحمد التابعي وفكري أباظة وبديع خيري، وكان الشيخ يغني لهم عيون الشعر العربي، لاسيما قصيدة أراك عصي الدمع، لأبي فراس الحمداني. بلغ الشيخ رفعت ذروة المجد، لكن المقادير ادخرت له ابتلاء عظيما، ففي عام 1942 بدأت معاناته مع مرض "الفواق" أو "الزغطة"، الذي لم يكن إلا سرطانا أصاب حنجرته الذهبية.. قاوم الشيخ المرض، واستمر في التلاوة عاما أو عامين بغير التوهج الذي كان عليه، إلى أن استبد به المرض وحرم الجماهير من صوته الخالد. ويروي الناقد والمؤرخ الموسيقي الراحل كمال النجمي شهادته عن آخر لقاء لرفعت مع الجماهير فيقول: " في سنة 1943 رأيت مشهدا مبكيا من مأساة صاحب أرقى حنجرة وأسمى فن غنائي يعتمد على بديهة الارتجال في عصرنا.. رأيت مأساته في لحظات رهيبة تشبه الحلم المرعب، وقد أحاط به مئات المستمعين بمسجد فاضل باشا، وبدأ يقرأ من سورة الكهف، فداهمته "الزغطة" حتى انحبس صوته… حنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب، ثم أخرج من جيبه زجاجة دواء صغيرة فتناول قدرا منها، فأطاعه صوته في آيتين أو ثلاث، ثم قهره الداء.. توقف حائرا.. ثم ترك مجلسه لقارئ آخر.. وفي تلك اللحظة المأساوية انفجر الناس في المسجد بالبكاء، وعلا نحيب المقرئين الشبان، وتحول الموقف إلى مأتم رهيب للصوت العبقري الذي ضاع". ومما ضاعف من أثر المصيبة أن الإذاعة في تلك اللحظة لم تكن تملك من تسجيلات رفعت إلا شريطين، أحدهما لآيات من سورة مريم والثاني لآيات من سورة يوسف.. وكان مدير الإذاعة سعيد باشا لطفي قد حاول مع الشيخ مرارا لتسجيل تلاواته على أشرطة لتكون ذخيرة للبث حينما يعجز المقرئ الفذ عن الإذاعة بشخصه على الهواء، لكن الشيخ رفض رفضا باتا متأثرا بهواجس ابنه الأكبر من أن الإذاعة قد تستغني عن دعوته اكتفاء بتسجيلاته. لكن الأقدار لم تشأ أن تحرم الجماهير من صوت محمد رفعت، فقد كان زكريا باشا مهران أحد المفتونين بصوت الشيخ، وقد سجل له عددا كبيرا من التلاوات على اسطوانات، وقدمها هدية نفيسه وتراثا خالدا دون مقابل.. امتلك الباشا الهاوي جهازين للتسجيل، وكان زمن الاسطوانة دقائق معدودة، فتحتاج التلاوة التي تستغرق 45 دقيقة إلى عدد من الاسطوانات قد يجاوز العشر، وأثناء تبديل الاسطوانات قد تسقط بعض الكلمات أو الآيات من التسجيل، فبدأ مهران في التسجيل على اسطوانتين في نفس الوقت.. واستفتت الإذاعة مفتي الديار المصرية في بث التسجيلات التي يتخللها القطع، ثم توصل المسؤولون إلى تجزئة التلاوات تجنبا للخلل، فلم تزد معظم المقاطع عن مدة ربع ساعة. قضى الشيخ رفعت السنوات الثماني الأخيرة من حياته يواجه المرض، ويعاني الفقر، بعيدا عن الأضواء.. ثم تذكرته مجلة المصور، بعدما تلقت عددا من رسائل قرائها يعتبون على الإذاعة إهمالها للشيخ في محنته، فزارته في بيته، وأجرت معه حوارا، والتقطت له عددا من الصور التي تظهر سوء حالته، وكتب مندوب المجلة في تقدمة حواره: "إن الشيخ الذي كان صوته يملأ الدنيا، وكانت الملايين تهتز قلوبهم وهو يرتل القرآن، وكان المجرمون والمتجبرون تفيض أعينهم من الدمع حينما يسمعونه.. هذا الرجل لا يجد اليوم سبيلا إلى شراء الدواء إلا تأجير القسم الأكبر من منزله".. وعلى إثر حوار "المصور" دعا الكاتب الكبير أحمد الصاوي إلى اكتتاب عام، لعلاج الشيخ، فجاوزت التبرعات خمسين ألف جنيه، لكن الشيخ وأولاده رفضوا قبول التبرع، وظل رفعت يقول: أراد الله ليمنعني ولا راد لقضائه. بالتأريخ الميلادي، ولد الشيخ محمد رفعت في التاسع من مايو، ورحل أيضا في التاسع من مايو، عن 68 عاما، كان فيها نجم القرآن المفرد الذي لا يطال، خشع لصوته أصحاب القلوب القاسية، وبكى من تلاوته عتاة الإجرام، وأسلم كثيرون متأثرين بجلال الآيات من حنجرته.. كان صاحب الصوت الأجل في تاريخنا. يصف الأديب الكبير محمد المويلحي، صوت رفعت بأنه "يهيئ للأذهان جوا غير الجو الذي تعيش فيه، جوا تسبح فيه أطياف الملائكة، وتغرد فيه بلابل الجنان… صوت لم يخلق الله مثله في لونه ونوعه".. وكتب نجيب الريحاني يصف صوت رفعت قائلا: "إن صوته هو الخلود بعينه، صوت له نبرات احتار في فهمها العلماء، ولما سألت عبد الوهاب يوما عن سر حلاوة هذا الصوت قال لي إنها منحة إلهية وعبقرية لن تتكرر". أما عازف العود الفنان نصير شمة فكتب عن محمد رفعت يقول: "عفة النفس.. الزهد.. النقاء.. الشفافية.. الاتصال الروحي مع السماء وخالقها.. الخشوع.. جمال الصوت.. قوة النفاذ والتأثير.. هذه سمات شخصية واحدة نذرت نفسها للقرآن الكريم معنى وتلاوة وتصديقا لما جاء فيه، فكانت النتيجة أعظم قارئ عرفته الأذن، وصوتا منسجما مع حركة الكون.. إن وجود صوت كهذا هو بلا أدنى شك إحدى آيات الله للإنسان".