(1) «يا بوى يا عم الشيخ رفعت».. صوت أحد مريدى الشيخ، تستطيع أن تميزه بسهولة فى تسجيل سورة «مريم».. لعله الشخص نفسه الذى انتحر يوم جمعة عام 1943.. بعدما احتبس صوت الشيخ رفعت ولم يستطع مواصلة التلاوة. فى هذا اليوم، وفى مسجد فاضل باشا بالجماميز، حيث تعود شيخنا أن يتلو ما تيسر من قرآن الجمعة.. وصل إلى سورة «الكهف» آية «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا».. فغص صوته واحتبس فى كلمتين أو ثلاث.. وقاوم «الزغطة» التى غص بها حلقه، وقرأ ما سمحت به نوباتها المتكررة.. ثم سيطرت «الزغطة» على الموقف وملأت حلق الشيخ وحبس صوته تماما. أحنى الشيخ العظيم رأسه جريح القلب لا يدرى ماذا يصنع، ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة بها سائل أحمر (دواء)، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاث.. ثم قهره الداء وتوقف حائرا لبعض الوقت.. ثم غادر مجلسه تاركا إياه لشيخ آخر.. انفجر الناس فى المسجد باكين، وعلا نحيب المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ رفعت لسماعه فى كل جمعة والتعلم منه. وذاع الخبر.. انتهى الشيخ رفعت وقهره المرض.. ولن يستمع له أحد مرة أخرى. انتهى صوت الشيخ رفعت من مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز.. ولم يدر الناس كم من الوقت مضى منذ أن اعتلى شيخنا منبر هذا المسجد حتى نزل من عليه مكسورا أمام المرض اللعين، الذى ترك كل شوارع الجسد ليستقر فى النهاية فى حنجرة محمد رفعت. (2) كان عند مولده بصيرا.. وكان طفلا تروى عنه الأساطير، لأنه الأجمل فى حى المغربلين، وكان أجمل ما فيه عينيه.. أما والده محمود رفعت، وكان مأمورا لقسم الساحل، فقد أحبه لدرجة كبيرة، حتى إنه كان لا يتركه ليمشى على قدميه، بل يحمله على كتفه. فجأة أصيب هذا الصبى بالرمد، وتمكن من بصره، ولم يكن هناك بد من إجراء عملية جراحية.. فقد بصره بعد إجراء العملية، وهو فى الثالثة من عمره، فذهب به والده إلى أحد مشايخ المغربلين ليحفظه القرآن.. فأتم حفظه فى التاسعة من عمره.. فى الوقت نفسه توفى والده وتركه مسؤولا عن إعالة أسرة بأكملها.. ففوجئ الطفل بأنه لا يملك مصدرا للرزق سوى ما يحفظه ويُحفظّه أيضا.. فانطلق صوته من ليالى المآتم وأصبح مطلوبا دوما لجمال صوته وصغر سنه وقلة أجره.. وبدأ فى الوقت نفسه يتعلم فن التجويد والقراءات السبع على يد أستاذيه: الشيخ محمد البغدادى، والشيخ السمالوطى، الذى أصر على أن يعلم شيخنا محمد رفعت الموسيقى وعزف العود، لتهذيب إحساسه بموسيقى كلام الله. وعندما استشعر شيخنا حلاوة صوته ودفأه، أنشد فى محطات الإذاعة الأهلية «أراك عصى الدمع»، و«حقك أنت المنى» و«بحق هواك يا من أنت عمرى».. وبدأت تلوح فى الأفق رايات الإعجاب والانبهار بصوت الشيخ رفعت. (3) فى عام 1934 أنهيت خدمة المحطات الأهلية، وبدأ أول بث للإذاعة اللا سلكية الحكومية، وأرسل محمد باشا زيادة للشيخ رفعت يطلب منه أن يقدم تلاوة قرآنية بصوته مرتين فى الأسبوع، ليصبح بذلك أول مقرئ يدخل الإذاعة ويتلو فيها القرآن على الهواء مباشرة. فى بادئ الأمر رفض شيخنا هذا العرض، ولم يبد الأسباب، لكن أمام إصرار مدير الإذاعة، طلب منه شيخنا مهلة لمدة أسبوعين لاستشارة رأى علماء الدين فى التعامل بكلام الله مع الأجهزة الحديثة.. واتضح أن الشيخ رفعت كان يخشى التسجيل لخوفه من أن يمس شخص غير طاهر الشرائط.. لكن المشايخ أقنعوه بأن مسؤولية الطهارة لا تقع على حامل الأسطوانة، لكنها تقع على القارئ والمستمع.. وبناء على رأى علماء الدين وافق شيخنا على أن يقوم بالتلاوة فى الإذاعة مرتين أسبوعيا.. مساء يومى الثلاثاء والجمعة.. و«أجارك الله».. كان الناس يلتفون حول جهاز الراديو فى كل مكان بمصر فى ميعاد التلاوة.. وكان أصحاب المقاهى يزيدون عدد الكراسى لاستيعاب كل المستمعين، ومع ذلك كان الجمهور وقوفا أكثر، لدرجة الاستعانة بالشرطة، تحسبا لخروج مظاهرات من المقاهى تهتف ضد الإنجليز بعد الشحنة التى حصل عليها المستمعون.. فالحكام عادة كانوا يخشون كل ما يحرك آدمية المحكومين. فى هذا الوقت كان محمد رفعت يتقاضى ثلاثة جنيهات فقط عن تلاوة ساعة كاملة.. وبدأت شهرته تذيع فى الوطن العربى، لدرجة أنه خلال الحرب العالمية الثانية كانت إذاعات لندن وباريس وبرلين تذيع قراءاته لجذب المستمعين إليها.. فبدا صوت الشيخ رفعت وكأنه إحدى أهم دعائم العمل السياسى فى هذه الفترة.