ما بين نبوة موسى وصوفية الخضر، جرت الكثير من المياه والكتابات والتأويلات والأسئلة في البحث والتنقيب عن منزلة ومكانة كل منهما، ومحاولة فهم واستجلاء العبر والمعاني والدلالات المرتبطة بتلك القصة المثيرة والمدهشة التي ذُكرت في القرآن في سورة الكهف، ورغم كل الخيوط والحكايات المتعددة عن موسى والخضر، يبقى سؤال التصوف والنبوة حاضرا دومًا بما يحمله من أسئلة كثيرة من أبرزها معنى الإيمان وصوره المتعددة. هذا السؤال البسيط متعدد الأوجه تحول تدريجيًا إلى مبارزة وصراع بين الطوائف الإسلامية المختلفة، ورغم ما تحمله القصة كما وردت في القرآن ثم في الأحاديث المنسوبة للنبي من مساحة كبيرة من التعددية والتأويل والدعوة للتفكير والتأمل والتدبر وعدم الاكتفاء بظاهر الأشياء والتواضع في طلب العلم وإدراك محدودية معرفة الإنسان بذاته وبالعالم وبالله، إلا أن كل تلك الشواهد يُضرب بها عرض الحائط من قبل أنصار الرؤية الأحادية من محتكري الإيمان والحديث باسم الله الذين يفتعلون صراعا ما بين النبوة والتصوف وما بين موسى والخضر يحاولون من خلاله طمس أي محاولة للتأويل أو الانفتاح على صور الإيمان المتعددة والتفكير والتدبر في خلق الله وتدبيره. في القرآن والسنة. اختلف العلماء والمؤرخون كثيراً في شخصية الخضر، حيث اعتبره البعض منهم نبيًا من الأنبياء، وأن الله سبحانه وتعالى قد أطال في عمره حتى يدرك الدجال فيكذبه، ومنهم من رأى بأنه ولي من أولياء الله، وقيل إنه ابن آدم لصلبه، وروى بعضهم أنه من سلالة نوح، وقيل إنه المعمر بن مالك بن عبد اللَّه بن نصر بن الأزد، وآخرون قالوا إنه ابن عمائيل (مقاتل) بن النوار بن العيص بن إسحاق، تصورات كثيرة ومتعددة لشخصية الخضر التي لم يفصح القرآن عن اسمه وحتى الأحاديث النبوية ذكرت لقبه فقط، فقد أورد الإمام البخاري حديثاً للنبي يقول فيه "الخضر إنما سمي خضراً، لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز خلفه خضراء"، وقد وردت قصة موسى والخضر في صورة الكهف ضمن مجموعة من القصص عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وغيرها من قصص الأولين. وجاءت الآيات من 60 إلى 81 لتروي القصة" وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، فلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا، َقالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، قالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا…
الشرع والحكمة رغم قِدم قصة موسى والخضر وتعدد وجوهها ودلالاتها إلا أنها لا تزال تطرح العديد من التساؤلات والإشكاليات التي نعيشها في واقعنا المعاصر وخاصة ثنائية الشرع والحكمة، والظاهر والباطن، وقد وردت القصة مجردة من الزمن والمكان وحتى شخصية الخضر ذاتها تم ذكرها بصورة مجردة كعبد صالح أتاه الله رحمة، بدون ذكر اسم أو توضيح ما إذا كان نبي أو رسول، هذا الأمر تكرر أيضًا في معظم الأحاديث النبوية التي قدمت القصة بذات السياق من التجريد، ورغم ذلك لم تتوقف محاولات بعض رجال الدين لوضع تصور نهائي، فمنهم من يقول ويجزم بنبوة الخضر عبر مجموعة من الاستدلالات اللغوية التي وردت في الصياغة القرآنية لكن هناك ردود وحجج عديدة تنكر ذلك، وهناك من يحاول استنباط أحكام شرعية من القصة كحق إفساد ممتكلات الغير إذا كان ظالمًا، أو حق اكتناز المال أو حق القتل كل تلك الأمور الشائكة التي يُرد عليها أيضًا، وقد أنكر موسى ذاته على الخضر فعل إفساد السفينة وقتل الصبي، إلا أن الخضر لم يغضب ويرفض هذا الإنكار، وإنما كان غضبه نابعًا من كون موسى لم يصبر حتى يعرف الحكمة، وعندما علم موسى الحكمة في نهاية الرحلة لم يذكر القرآن أن موسى أقر تلك الأفعال، وتلك إشارة أخرى تؤكد أن مغزى القصة ومعانيها لا تكمن في الأحداث ذاتها، بقدر ما تكمن في خوض رحلة التدبر والتأمل والبحث المستمر ومعرفة أن هناك ظاهر وباطن للأشياء، وفي المجمل هذه القصة بما تحمله بداخلها من تباين وتعدد، تأتي كرحمة كبيرة للإنسان، فتحرره وتدفعه للفكاك من حيرته وآسر التصورات المختزلة والرائجة عن الحياة والإيمان بالبحث في داخله وخوض رحلته مع الله، تلك الرحلة التي لا يغلق بابها ولا تقتصر على أشخاص دون غيرهم، فهى رحلة أبدية وممتدة عبر الزمن. المدهش أيضًا في قصة موسى والخضر أن ذكرها لم يقتصر على الإسلام فقد وردت بصور مختلفة في المسيحية واليهودية وفي إطار يحمل قدر كبير أيضًا من التجريد والضبابية، وهو ما يؤكد مجددا على أن المعنى الرئيسي من القصة يكمن في الحكمة وليس في التشريع، فلو أراد الله أن تكون القصة متن شرعي لأكد على ذلك بصورة قاطعة، لا تحتاج للبحث والتأويل والتقول على الله، وفرض وصاية على عباده، فقصة موسى والخضر في هذه النقطة تحديدًا تبدو واضحة في تأكيدها على مساحة من التعددية والدعوة للتفكير وللتأمل مع التأكيد على الصيغة الفردية للإيمان، فموسى رغم أنه نبي لم يذهب ليدعو الخضر ليؤمن به ويسير على شريعته ومنهاجه، وكذلك الخضر رغم ما فتح الله عليه لم يدعو موسى للإيمان بما فعله أو تكراره، فما حدث بينهما كان دوما في إطار الحكمة والتدبر والتأمل دون وصاية من أحد، فقط هى علامات على الطريق قد نراها أو نغفلها وقد لا تكون موجودة بالصورة التي نظنها من الأساس فكما يقول المتصوف الفارسي فريد الدين العطار "علامة الطريق… أنه لا علامة فيه"، فرحلة المتصوف سعي في طريق بلا علامات واضحة المغزى والدلالة، إنها رحلة الذات سعيا وراء اكتشاف حقيقتها ومعناها، محاولة تجاوز حدودها الضيقة على مستوى الواقع والتاريخ والزمن والجغرافيا.