"أفي النبوة شك؟ الأدلة العقلية النقلية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم" هو عنوان أطروحة الدكتوراه للدكتورة سامية البدري، وطبعت حديثا ضمن إصدارات مركز دلائل بالرياض، وهي تقع في 450 صفحة. وفي هذه المرحلة التي تتصاعد فيها أصوات بعض بني جلدتنا بترديد شبهات المستشرقين تجاه الإسلام والله والقرآن والرسول حتى انغر بها بعض المسلمين والمسلمات كان لا بد من البحث والكتابة في مثل هذه الشبهات المثارة، والتي تجد دعما مباشراً وغير مباشر باسم حرية البحث والانفتاح والتعددية، بينما هي في الحقيقة حرب فكرية تقوم على الكذب والافتراء والتزوير والتحريف والتأويل الخبيث، ولكن من طبيعة الباطل دوما الخداع والمكر، ولذلك ينجح مؤقتاً السارقون للأموال والعقول، ثم تنكشف السرقة والجريمة! إنكار النبوة أو التشكيك فيها أمر تكرر عبر التاريخ "ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك" (فصلت: 43)، وتتنوع أصناف المنكرين للنبوات بين من هو منكر أصلا للرب والخالق كالملاحدة والملاحدة الربوبيين الذين يزعمون تخلي الخالق عن إدارة شؤون الكون ولذلك لا فائدة من إرسال الأنبياء، أو عند من ينكر الإله كفرعون، الذي أنكر ألوهية الله عز وجل، ولذلك أنكر نبوة موسي، أو عند من يشرك بعبادة الله عز وجل غيره من المخلوقات فكيف يقبل نبوة من يرفض عبادته لغير الله عز وجل، أو عند من يقبل نبوة بعض الأنبياء دون غيرهم كحال اليهود مع عيسى وحال النصارى مع محمد عليهم الصلاة والسلام. لا يمكن في هذه المساحة المتاحة استعراض تفاصيل هذا البحث الكبير ولذلك سأكتفي بعرض الخطوط العامة لما توصلت له الباحثة والتجاوز عن كثير من التفاصيل المهمة والمعلومات القيمة والاقتصار على مثال من الأمثلة التي ذكرتها الباحثة في كل دليل. اعتمدت الباحثة على القرآن الكريم لبيان أدلة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن آيات القرآن تقدم الأدلة العقلية النقلية القاطعة والكافية، وعلى العاقل والصادق في بحثه أن يتدبر القرآن ليجد الحقيقة ماثلة أمامه. أول الأدلة على نبوة محمد صلى الله عايه وسلم التي أوردتها الباحثة الكمال الأخلاقي للنبي والمتمثل بكمال صدقه واستحالة كذبه، وصِدق النبي صلى الله عليه وسلم محل اتفاق عند الناس ممن عرفوه من خصومه وأتباعه قبل النبوة وبعد النبوة وكان يلقب بالصادق الأمين، وقد شهد له القرآن الكريم بالصدق ونفى تكذيب خصومه له "فإنهم لا يكذبونك" (النعام: 33)، ولم يستطع أعداؤه في حياته وبعد موته أن يأخذوا عليه كذبة أو تناقضا في أخباره وأحكامه أو ما بلّغه من وحي عن ربه عز وجل، والصدق صفة كل الأنبياء السابقين وهو على نهجهم يسير. الدليل الثاني أميّته صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يقرأ ولا يكتب كغالب العرب، فكيف لمن عاش مع قومه أربعين سنة متصفا بالصدق ولا يعرف القراءة والكتابة أن تتفجر منه هذه العلوم فجأة، علم ما مضى من خلق الكون والعالم والبشر، وقصص الأنبياء والأقوام السابقين، وأخبار المستقبل وأحكام الحلال والحرام والتعاملات برغم أميته وعدم تحدثه بها أربعين سنة إلا بكونه نبيا يتلقى الوحي من الله عز وجل، وقد بيّن القرآن الكريم مصدر هذه العلوم "وعلّمك ما لم تكن تعلم" (النساء: 113). أما الدليل الثالث فهو الكمال التشريعي لرسالته ونبوته صلى الله عليه وسلم، وقد جعلته الباحثة على ثلاثة أقسام: الأول: موافقة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للفطرة البشرية تجاه التدين، فليس في الإسلام الذي جاء به محمد الصادق الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة شيء يخالف الفطرة السليمة كما في كثير من الديانات الأخرى الوضعية أو المحرفة، "فأقِم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (الروم: 30). فليس في الإسلام عبادة لجماد أو حيوان أو ظاهرة طبيعية كما في كثير من الديانات الوضعية والتي يتفق العقلاء على أنها مخلوقة كغيرها من المخلوقات ولا تستحق العبادة والطاعة، وليس في الإسلام من عنصرية أو ما ينكره العقل كما في الأديان المحرفة. كما أن أحكام الإسلام جاءت موافقة للحكمة والعقل "ومَن أحسن دينا ًممّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً" (النساء: 125)، فلم تحرم الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا كل ضار كالخمر والميتة والنجاسة، وأحلت كل الطيبات وهكذا سائر الأحكام. الثاني: موافقة الرسالة المحمدية لجوهر رسالات الأنبياء السابقين في عبادة الله وحده والإيمان باليوم الآخر وفي أصول الحلال والحرام "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" (المائدة: 48)، وذلك لأن المصدر واحد وهو الله عز وجل. القسم الثالث: تطابق مضمون الرسالة المحمدية مع حقائق الكون والعلم، فكيف لرجل أمي أن يتكلم بحقائق كونية وعلمية بعضها كان معروفا في عصره وبعضها لم تفهم تفاصيلها إلا بعده وبعضها لا يزال لليوم لم يتوصل العلم لدقائقها إلا أن تكون وحياً من عند الله الخالق للكون، بينما شهدت أوربا صراعاً ضخما بين الكنيسة وآرائها العلمية مع العلماء تسببت بقتل الكثير من العلماء من جهة والكفر بالكنيسة لاحقاً وانتشار العلمانية، بينما في الإسلام كانت النهضة العلمية تترافق مع التزام أحكام القرآن الكريم بتمجيد العلم والعلماء، ولما ساد التصوف المنحرف المحارب للعلم والداعي للتواكل انحطت الأمة وغرقت في الجهل وداستها خيول أوربا التي استيقضت على أنوار حضارة الأندلس الإسلامية! الدليل الرابع هو إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية كثيرة وهو من صفات الأنبياء من قبل، فهذا يوسف عليه السلام: "قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علّمني ربي" (يوسف: 37)، وهذا عيسى عليه السلام: "وأنّبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين" (آل عمران: 49). وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب ثلاثة أنواع، الأول: الإخبار عن غيبيات مستقبلية وتحققها كانتصار الروم على الفرس "غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون" (الروم: 2-3)، ودخوله مكة "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لَتدْخُلنَّ المسجِدَ الحرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنين" (الفتح: 27)، وإخباره عن عدم تمني اليهود للموت "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين* ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" (البقرة: 94-95). فتحقُق الكثير من الغيبيات التي أمر بها دون خطأ ولو لمرة واحدة يؤكد أنها وحي إلهي وليست كلام بشر, نعم، بقيت غيبيات لم تحدث بعد، (لم تحدث بشكل مغاير)، وهذا لا يؤثر على صدقها لأنها ليست موقتة بموعد محدد. النوع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن أسئلة الناس من أمور الغيب اعتمادا على الوحي، ومن ذلك وصفه لبيت المقدس لما اختبره كفار قريش حين أخبرهم بإسرائه إليه، فكان جوابه مطابقا لصفة بيت المقدس، وكذلك سائر أجوبته على أسئلة الخصوم، مما يؤكد نبوته. النوع الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم عن أمور غيبية ماضية، كإخباره عن قصة كفالة مريم "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون" (آل عمران: 44)، وبرغم أميّة النبي صلى الله عليه وسلم فإن خصومه من اليهود والنصارى لم يستطيعوا تكذيبه أو تخطئته في هذه الأخبار، التي تخصّ تاريخهم مما يبرهن نبوته. أما الدليل الخامس على نبوته صلى الله عليه وسلم فهو تباين نظم كلامه عن نظم وأسلوب القرآن الكريم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أُرسل في قريش وللعرب، وهم أهل الفصاحة والبيان والشعر، ولذلك انهزمزا في التحدى بإتيان مثيل للقرآن الكريم مع طول المدة، وأذعنوا أن نظّم القرآن الكريم نظم مختلف لا طاقة لهم بمجاراته، وكذبهم القرآن الكريم في نسبة القرآن لمحمد وأنه شاعر أو أنه ككلام الكهان "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون* ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون* تنزيل من رب العالمين" (الحاقة: 41-43). وحتى كلامه صلى الله عليه وسلم كان مختلفا عن القرآن الكريم، وهذا دليل نبوته حيث تباين كلامه كبشر عن كلام الله عز وجل برغم أنه هو المتحدث بهما، ولو كان القرآن من كلامه لما وجدنا فرقا بينهم. أما الدليل السادس فهو عتاب الله عز وجل للنبي في القرآن الكريم، فقد ورد في القرآن الكريم عدة آيات فيها عتاب من الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلمَ الكاذبين" (التوبة: 43) في قصة المتخلفين عن غزوة تبوك. ومن العقل والمنطق أن القرآن لو كان اختراعا من النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع فيه هذه الآيات التي تلومه وتعاتبه! ولكنها النبوة والوحي وصفة الصدق والأمانة التي يتحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل السابع على نبوته صلى الله عليه وسلم تأخر نزول الوحي مع مسيس الحاجة إليه، مما يثبت أن محمدا صلى الله عليه وسلم ينتظر نزول الوحي الرباني عليه ولا يتصرف من تلقاء نفسه. ولعل تأخر نزول الوحي في حادثة الإفك التي لمز بها المنافقون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أبلغ الأدلة على أمانته وصدقه صلى الله عليه وسلم، فالقضية شخصية تمسه مباشرة وفي موضوع حساس هو العرض والشرف عند العرب عموما وعند النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً، ولكنه لم يلجأ ليبرئ نفسه بل انتظر شهراً حتى نزلت براءة أم المؤمنين في آيات من القرآن، لأنه نبي وليس دجالاً يخدع الناس. وبعد بيان هذه الأدلة على صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فإن على المؤمن بها التسليم بما جاء به صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب وأصول الدين والانقياد لأحكامها وتجنب الشبهات التي يرددها الكثير من أصحاب القلوب المريضة والتي تشكك في النبوة أو تشكك في وجوب التزام السنة النبوية.