(1) لخص الإمبراطور عبد الفتاح السيسي كل ما يمكن أن أكتبه من انتقادات غاضبة في مشهد واحد، هو مشهد تكريم العاملة الفقيرة "منى السيد إبراهيم" في افتتاح جلسات الحوار الوطني الشهري لمتابعة تخريفات مؤتمر الشباب، وفي مشهد "كاليجولي" بامتياز (سأوضح بعد قليل معنى كاليجولي) حرص فخامته على استقبال "منى"، ومصافحتها قبل كبار رجال الدولة، وخصصت لها إدارة المراسم برئاسة الجمهورية مقعدا إلى جوار الرئيس، الذي منحها جائزة الإبداع للشباب، وهي الجائزة التي تشبه وجبة من التبن في أطباق من التبر (وهذا التشبيه سيتضح أيضا في المعنى الكاليجولي).! (2) أي إبداع رأيته في جر منى لعربة البضائع بدلا من الحمار يا سيادة الرئيس؟ (3) يقول الصهاينة: العربي الجيد هو العربي الميت. ويقول السيسي: المصري المبدع الذي يستحق التكريم، هو المصري الفقير الذي يعمل كالحمار دون أن ينطق، أو يشكو، أو يعرف حقوقه، أو يتمرد على الظلم، لذلك كانت "منى" بكل ما تمثله من ضحية للفقر والسخرة وغياب كفالة الدولة لمواطنيها، هي المواطن المثالي، الذي تسعى دولة السيسي لتعميمه، وتكريمه كنموذج للشباب الوطني. (4) سأعود إلى مناقشات المؤتمر في مقالات أخرى، لكنني أتوقف اليوم مع مشهد هزلي موجع، اجتمعت فيها المأساة والمسخرة جنباً إلى جنب، مشهد الفقيرة المعدمة التي ترتدي "بدلة أنيقة" ربما لأول مرة في حياتها، وتصعد إلى المسرح لاستلام جائزة الإبداع من رئيس الجمهورية، وتلقي كلمة أمام كبار المسؤولين في الدولة.! (5) وددت لو كانت "منى" تقرأ أشعار محمود درويش حتى تختار من قصائده هذا البيت من ديوان "ورد أقل": "يحبونني ميتاً/ ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا" لكن منى لا تقرأ الشعر، ولا تقرأ أصلا، ولا تعرف حدود اللعبة الانتهازية الممسوخة التي ورطتها في كل هذا الهراء الرسمي. (6) الرئيس لا يهتم بحياة "منى"، ولا يعنيه من أمرها شيئا، فمصر المأزومة تضم مئات الآلاف من هذه العينة الكادحة، ومئات الآلاف من المرضى الذين لا يجدون العلاج، ومئات الآلاف ممن لا يجدون سكناً ولا طعاماً، ولا حتى عربة يجرون عليها البضائع، لكن المتلاعبين الذي افتعلوا من قبل حكاية "حلق زينب"، أرادوا أن يقدموا إصدارة حديثة من الهزل عن طريق "منى"، ووجدها الرئيس فرصة ليقدم رسالته "الكاليجولية" لتكريم حصانه ليغيظ ويهين كل من يعارضه، وإليكم القصة: (7) كان الامبراطور الروماني جايوس الشهير باسم "كاليجولا"، قد وصل إلى مرحلة القمع الشامل، وجنون العظمة، حتى أنه كان يردد "اللي يقدر على ربنا لن يقدر على كاليجولا، وكان يحتقر كل من حوله، ويقتل بلا تمييز، لكنه أظهر رأفة بالحيوانات وبخاصة حصانه الحبيب "إينسيتاتوس"، فأمر بصنع بيت له من المرمر والعاج والذهب، وترصيع لجامه بالجواهر، وكان يحترمه أكثر من كل قيادات الدولة، وذات يوم دخل كاليجولا مجلس النبلاء ممتطياً الحصان، فأخذ الدهشة الجميع، لكن أحدا منهم لم يجروء على الكلام، إلا "براكوس" الذي تحفظ على هذا التصرف باعتباره إهانة للمجلس، فرد عليه كاليجولا: أظنها إهانة لحصاني الحبيب، لأنه أكثر فائدة وذكاء من النبيل المعترض، وصفق بقية المجلس نفاقاً للطاغية، الذي أصدر قرارا بتعيين الحصان عضواً في المجلس، ودعا الجميع إلى حفل رسمي للاحتفال بهذه المناسبة، وعندما ذهبوا إلى الحفل فوجئوا بأن الطعام المقدم لهم في صحائف من ذهب ليس إلا "التبن والشعير"!، ولما رأى كاليجولا الصدمة على وجوههم وسمع همهمة الاستفسار، صاخ غاضبا: انتو هتاكلوا روما ولا إيه؟.. إنه لشرف عظيم لكم أن تأكلوا من طعام حصاني العزيز "إينسيتاتوس". (8) قصة كاليجولا والحصان ليست موثقة تاريخياً، برغم انتشارها في المرويات التي أعقبت قتل كاليجولا، ويرجح المؤرخ إلفيس فينرلينج أن كاليجولا لم يتصرف بهذه الطريقة تحت تأثير الجنون الخالي من الغرض، لكنه كان يتعمد إهانة وإذلال الآخرين من النبلاء والنخبة، وبالتالي فإن تكريمه للحصان كان بمثابة رسالة إهانة لكل المحيطين، كأنه يقول لهم: أنتم عندي لا تستحقون الاحترام ولا التكريم، وحصاني أجدر بذلك. (9) المؤسف أن ثورة الغضب التي أشعلها "براكوس" وأدت إلى مقتل كاليجولا، طالت الحصان المسكين، فقتله الثوار لا لذنب ارتكبه، ولكن بسبب استخدام الطاغية له، وهكذا جنى كاليجولا على "منى" مرتين. (10) قصص الإخضاع الرمزي، لم تبدأ بحصان كاليجولا، ولن تتوقف عند منح "منى" جائزة الإبداع، ولعل "قبعة جيسلر" كانت مثالأ آخر على ذلك، فقد وضع الحاكم النمساوي الظالم لسويسرا قبعته فوق قاعدة تمثال بمنتصف، وأصدر أمرا لسكان المدينة بالانحناء للقبعة وتبجيلها، لأنه تمثله، لكن "ويليام تل" رفض طاعة الأوامر، فحكم عليه الطاغية بأن يضع تفاحة فوق رأس ابنه ويصوب عليها بالقوس، فأن قسمها بسهمه فقد نجا، قاصدا أن يجعله يقتل ابنه بيده، وبعد ان نجح "تل" في شطر التفاحة نصفين، حبسه الطاغية في القلعة، لكن "تل" يهرب ويقتله، لتبدأ رحلة تحرر سويسرا كدولة مستقلة، من قصة فرد واحد رفض الانحناء للطاغية ولقبعته. (11) فمتى نتحرر من كل هذا الطغيان الأعمى.. متى نتطهر من كل هذا الهزل الممسوخ؟! الإجابة مرهونة بغضبة كرامة من "براكوس".. وأظننا لم نتخلص بعد من الغضب، ومن الكرامة. جمال الجمل [email protected]