في البيت رقم 31 شارع نوبار باشا، أسس مصطفى كامل دار اللواء وأصدر منها جريدته الشهيرة آنذاك «اللواء» سنة 1900، وكانت تصدر باللغات الثلاث «العربية والفرنسية والإنجليزية». كانت الدار التي أسسها مصطفى كامل لسان الشعب ومنبره، ومصدر قوته وعنفوانه، وملاذه حين تشتد الأزمات وتستحكم الحلقات، فإذا ركب اليأس الأمة لا تجد مجددًا للآمال إلَّا تلك الدار، ولا تجد إصرارًا وعزيمة وتصميمًا في كل أرجاء المحروسة إلَّا منها أيضًا، حيث انطلقت منها دعوات مقاومة الاحتلال وجلاء الحماية البريطانية عن مصر، والمطالبة بصدور دستور للبلاد بإرادة الشعب، ولا شك أن الدار الصغيرة عملت على تكتيل قوى الشعب المصري في تشكيلات تمثل مصدر قوة ومعارضة تهدد السلطة الحاكمة، فمنها انتشر الوعي السياسي، بفضل الحركة الوطنية التي حضت على مقاطعة الوظائف، ودعت الوزراء للاستقالة من مناصبهم وإعلان أسباب الاستقالة. وظلت الحركة الوطنية مصرة على مبادئها حتى أصبح لها ظهير شعبي عريض، ونشرت الدار دعوات التعليم والتنوير للأميين، فنرى محمد فريد يفتح المدارس الليلية ليعلم الأميين، ويعهد إلى رجال الحزب الوطني بتخصيص جزء من وقتهم لتعليم أبناء الشعب، واستطاعت الدار الصغيرة تأسيس حركة النقابات بمصر، ليتم بعدها بعدة سنوات التمهيد لتأسيس أول نقابة للعمال بمصر في سنة 1909. لم تقتصر أهمية ذلك المكان على كونه مقرًّا لأهم الصحف بمصر آنذاك، أو أنه موجه رياح المعارضة والنضال، لكنه يكتسب أهميته من أصالة الذكريات التي ينضح بها وأهميتها وقيمتها التاريخية، ففيه تم تأسيس أول حزب سياسي علني في مصر «الحزب الوطني» الذي تم تأسيسه عام 1907، وشهدت الدار شخصيات عامة من مختلف القطر العربية تأتى إليها لتبايع مصطفى كامل رئيسًا لذلك الحزب مدى حياته. احتوى المكان على منصة، طالما صعدها مصطفى كامل، تارة ليلقى برنامج الحزب وأخرى خاطبًا في الناس ملتهبًا ثائرًا، وحجرة أخرى يسهر فيها حتى الصباح في انتظار المطبعة حتى تخرج عدد الجريدة، ومرة يجلس فيها متحدثًا وأخرى كاتبًا، وتضم الدار أيضًا ساحة شهدت انعقاد أول جمعية عمومية لأول حزب سياسي علني عرفته مصر، وحجرة أخرى موحشة كانت شاهدة على نوبات مصطفى كامل حين كان يصعد إليها بعد انتهاء العمل وانفضاض الجمع، شهدته مرات تأكل فيها العلة صدره، إلى أن شهدته يموت. وفي إحدى حجرات الدار يجلس شاب معمم ثائر يعمل مصححًا لغويًّا بالجريدة وهو الشيخ علي الغاياتي، ومن حين إلى آخر ينظم قصيدة ملتهبة يصب فيها جام غضبه على الملك والإنجليز، تنشرها له اللواء، وبسبب تلك القصائد التي نشرتها اللواء وجمعها الغاياتي بعد ذلك في ديوان، أصدرت الحكومة أمرًا بمصادرة الديوان وملاحقة كل من شارك في إصداره، وقررت النيابة العامة تقديمهم إلى المحاكمة. وبالفعل، تمت ملاحقة محمد فريد الذي كان قد خلف مصطفى كامل في رئاسة الحزب بعد وفاته، حيث شارك في إصدار الديوان بأن كتب له مقدمة تحت عنوان «أثر الشعر في تربية الأمم» وحكم عليه بالسجن ستة أشهر، وتمت ملاحقة عبد العزيز جاويش أيضًا، رئيس تحرير اللواء وقتها، وكان قد كتب مقدمة أخرى للديوان. ربما ظل المكان خالدًا بما ضم من أبطال، لكن تلك البطولة التي ثمثلت به لم تكن سوى بدافع من تلك الروح المجاهدة التي غشيت المكان حتى أضحت سلوكًا عامًّا مفروضًا على كل من به.