كان محمد فريد يعلم يقينا أن السجن هو ما ينتظره في مصر إذا عاد ولهذا تحديدا قرر أن يعود. مصدر يقينه أن شركاءه في الجريمة المنسوب إليه ارتكابها حكم عليهم بالسجن حضوريا وغيابيا قبل ذلك بأشهر قليلة وأن الحكومة عاقدة العزم علي محاكمته لحظة عودته. والتهمة ثابتة.. فتهمة فريد هي الوطنية وهو شرف يدعيه وجريمة ليس في وسعه أن ينكرها خصوصا وأنها ثابتة عليه بما لا مجال فيه للتملص. أصل الحكاية أن الشيخ علي الغاياتي أصدر في عام1910 ديوانا بعنوان وطنيتي والديوان يضم قصائد سبق للشاعر أن نشرها متفرقة قبل أن يجمعها في ديوان ولم تعترض الحكومة علي القصائد حين نشرها بالصحف. لكن الحكومات لا تعدم وسيلة تتلكك بها لمعاقبة خصومها ولهذا فقد رأت في الديوان ازدراء للحكومة وانتقاصا من قدر الخديوي وتحريضا علي العنف وهي أمور تستوجب المحاكمة. ولأن المسألة كلها مسألة تلكيك فإن الحكومة لم تكتف بتقديم الشاعر الذي كان قد سافر الي تركيا الي المحاكمة ولا بالناشر الذي طبع الديوان وإنما أيضا الشيخ عبدالعزيز جاويش رئيس تحرير الصحيفة التي كان يعمل فيها الغاياتي ونشر بها قصائده وأيضا محمد فريد وهو المستهدف الرئيسي من القضية كلها. كل من فريد وجاويش كتب مقدمة تقريظ وإشادة بالديوان فاعتبرتهما النيابة مع الغاياتي فاعلين أصليين في الجرائم التي انطوت عليها عريضة الاتهام. مصر وقتها تعيش حالة هلامية.. هي فعليا محتلة منذ عام1882 من قبل القوات البريطانية. اسميا هي لا تزال جزءا من الإمبراطورية العثمانية صاحبة السيادة عليها. بريطانيا حتي ذلك الحين ترفض توصيف وجودها في مصر هل هو احتلال أو حماية أو ضم. لكن التوصيف لا يغني عن الحقيقة شيئا وهو أن بريطانيا هي صاحبة القول الفصل في كل ما يجري في مصر. يستفيق المصريون بعد سنوات قلائل من الاحتلال البريطاني علي صوت شاب نحيل يتغني بحب مصر قائلا لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا. يعمل هذا الشاب واسمه مصطفي كامل علي استنهاض الهمم وإحياء الروح الوطنية ويشكل الحزب الوطني كأول حزب سياسي علني مناهض للاحتلال. خلفه في زعامة الحزب محمد فريد. مصطفي كامل بخطبه الجياشة بحب الوطن أيقظ المشاعر وكان يمثل خطرا علي الإنجليز لكن الخطر الأكبر والحقيقي مثله محمد فريد الذي عمد الي الأسس التي يمكن أن تقوم عليها الأمم فركز عليها عمله في الداخل. فإلي جانب المطالبة بالدستور وجه اهتمامه لمحو أمية الكبار وإنشاء اتحادات ونقابات عمالية واهتم بالحركة التعاونية. واكب ذلك نشاط خارج مصر لاستقطاب أكبر قدر ممكن من التأييد للقضية المصرية وكان ذلك ما يفعله تحديدا عندما جرت محاكمة الغاياتي. كان أمام فريد خياران.. أن يبقي في الخارج بعيدا عن السجن ويواصل كفاحه من هناك أو أن يعود الي مصر ليدخل السجن. يقول مؤرخون أن خطابا من ابنته الصغيرة فريدة تدعوه فيه الي العودة ومواجهة السجن كان سبب قراره بالعودة. وجهة النظر هذه تنسي أن من غرس حب الوطن في قلب ابنته الصغيرة ما كان له أن ينتظر تحريضا منها ليعود. في يناير1911 حكم علي فريد بالسجن ستة أشهر أمضاها كاملة رافضا عروضا من الإنجليز والخديوي بالتماس العفو عن جريمة الوطنية. لم يبالغ حافظ إبراهيم حين قال: كم ذا يكابد عاشق ويلاقي.. في حب مصر كثيرة العشاق.