«وطنيتي» واحد من أشهر الدواوين الشعرية التي صدرت في مصر في بداية القرن العشرين للشاعر علي الغاياتي، وقد جاءت شهرة الديوان من كونه أول ديوان شعري يتعرض للمصادرة عام 1910، حيث تضمن مجموعة من القصائد الوطنية التي تعد صورة من صور الجهاد ضد العسف والجور والاستبداد. وقد تصدرت الديوان مقدمتان، الأولي للزعيم محمد فريد، والثانية للشيخ عبدالعزيز جاويش، فما كان من الحكومة المصرية، آنذاك، إلا أنها قامت بمصادرة الديوان، وحكمت علي مؤلفه بالسجن لمدة سنة، وعلي الزعيم محمد فريد بستة أشهر، وعلي عبدالعزيز جاويش بثلاثة أشهر، وقد نفذ الحكم في فريد وجاويش بينما استطاع الغاياتي أن يهرب إلي الخارج ليقيم في تركيا ثم في سويسرا حتي عام 1935.ويبدو للوهلة الأولي أن مصادرة الديوان تنطوي علي أبعاد سياسية معينة لعل من أهمها أن الحكومة المصرية الموالية لقوات الاحتلال البريطاني كانت تريد إسكات محمد فريد والحزب الوطني وإيقافه عن إكمال المسيرة التي بدأها مصطفي كامل، فجاءت مصادرة الديوان كذريعة للايقاع بفريد ومجموعة الوطنيين من حوله، وبدأت النيابة التحقيق، وأعلنت الحكومة أنها سوف تقدم كل من شارك في طبع أو تقديم الديوان إلي المحكمة. ولم تجد أمامها في تلك اللحظة إلا الشيخ جاويش، و «إلياس أفندي دياب» صاحب إحدي المكتبات التي ضبطت تبيع الكتاب، وأعدت عرائض الدعوي وجهزت التهم المعدة سلفا، فاتهم الغاياتي بالقذف في حق الوزراء والمحاكم والحض علي كراهية الحكومة، واتهم جاويش بأنه حرض الغاياتي علي الكتابة في تلك الموضوعات. وتكونت هيئة المحكمة برئاسة محمد مجدي بك وعضوية علي ذو الفقار بك ومسيو سودان، ورأس النيابة توفيق نسيم، أما هيئة الدفاع عن المتهمين فتكونت من كل من أحمد بك لطفي ومحمد بك أبوشادي وعبدالسلام ذهني. طبعة جديدة وقد صدرت طبعة جديدة من الديوان بتحقيق ودراسة للأديب والباحث المتميز والجاد أحمد حسين الطماوي، الذي قدم قبل ذلك مجموعة من الكتب والتحقيقات لمجموعة من الاعمال الادبية والفكرية نذكرمنها «الديوان المجهول لخليل مطران»، و «ما هنالك: من أسرار بلاط السلطان عبدالحميد»، و«صبري السربوني.. سيرة تاريخية وصورة حياة»، و «فصول من الصحافة الادبية»، و «علي أدهم بين الادب والتاريخ»، و «قبس من وحي التراث» و «نسيم العشق والعشاق»، و«أفراح ملوك ورؤساء مصر» و «حوار المفكرين» و «الهلال مائة عام من التحديث والتنوير». والجديد هنا - في الطبعة الجديدة من الديوان والصادرة عن مكتبة جزيرة الورد أن «الطماوي» قد ذيل ديوان «وطنيتي» بالقصائد المجهولة للغاياتي والتي تحمل عنوان «هجرتي» وهي القصائد التي قالها الشاعر اثناء هجرته، والتي كتبها الشاعر في الفترة مابين 1912، و1947، كما يعتمد «الطماوي» علي التحليل المضمون للنص الشعري لعلي الغاياتي مع إقامة موازنة ومقارنة بين ما قاله من شعر في ديوان «وطنيتي» وما قاله في ديوان المخطوط «هجرتي» وتباين مواقفه السياسية وتحولاته العاصفة حيث يري أحمد الطماوي أن «الغاياتي» قد بدأ في «وطنيتي» متحمسا للقضية الوطنية وشجاعا في الدفاع عنها نظرا لامتلاكه عاطفة جياشة ممتلئة يحب الوطن لكنه بعد هروبه وجد نفسه في مكان غير المكان. و تراكمت عليه الهموم والأحزان مما أثر علي شخصيته فبدأ يغير من مبادئه من أجل الحصول علي لقمة العيش، وقد أحس في نفسه ان قادة الحزب الوطني قد غرروا به فراح يكيل لهم الهجاء، وفي المقابل راح يمدح الخديو عباس وقد نشرت القصيدة عام 1912 وهي تحمل عنوان «عيد الكنانة» وهي في الاساس في مدح الخديو عباس: يقول في مطلعها. مولاي عيدك للكنانة عيد .. يحلو به للصادح التغريد الله حسبك أيها المولي الذي.. تعتز مصر بملكه وتسود أعيادك الفيحاء غر مواسم.. تتجدد الآمال حين تعود في حين يعقد «الطماوي» مقارنة بين هذه القصيدة وقصيدة «الغاياتي» في «وطنيتي» والتي يهجو فيها سياسات الخديو عباس والتي يقول فيها: أعباس هذا آخر العهد بيننا.. فلا تخش منا بعد ذاك عتابا أيرضيك فينا أن نكون أذلة.. ننال إذا رمنا الحياة عقابا ونيأس من آمالنا فيك كلما.. قضيت علينا أن نكون غضابا ونري «الغاياتي» يكيل الهجاء لقادة الحزب الوطني - اصدقاء ورفاق الامس - في الكفاح والجهاد ضد الاستعمار وسطوة الخديو: فيقول: أبصرت بعد فراقهم - أن البلا .. تكاد مما يجرمون تميد إن الحوادث أنبأتني أنكم.. وإن اعتزيتم للرجال قرود ترجون تحرير البلاد وأنتمو.. حرب علي الإصلاح وهو وليد لستم بني مصر ولكن عصبة بوجودكم ايام مصر سود ولهذا نري «أحمد الطماوي» يؤكد أن «مواقف الغاياتي تجاه الحزب الوطني وزعمائه تبدلت في هجرته، واختلفت معاييره، فبعد أن كان يجافي الحكام، صار يتقرب منهم ويهفو إليهم طلبا للعفو والبر، راجيا ان يقبلوا اعتذاره، ولم يلتفت اليه أحد، فكأنه تنازل عن مواقفه السابقة دون مقابل». ويضيف الطماوي قائلا: «وقد أدرك الشيخ «الغاياتي مدي الضرر الذي لحق به، جراء نشر هذه القصيدة، فلم يأت علي ذكرها ولو لمحا وهو يسرد ذكرياته عام 1952 وحمدا لله علي نسيان الناس لها، إذ كان قد مضي علي نشرها حوالي أربعين عاما». والجدير هنا أن «أحمد حسين الطماوي» يعيد نشر القصيدة كاملة - في هذا الكتاب - بعد أن نشرت لاول مرة عام 1912. ديوان سياسي ومن وجهة النطر النقدية يري «الطماوي» أن ديوان وطنيتي وان كان في الأساس ديوانا سياسيا إلا أنه يعد صورة لعصره وانعكاساً لأحداثه لأنه يصور - علي حد تعبيره - «المشاهد الحية في الواقع - ويدون تقلباته، وأصداء ذلك في النفوس، كما يري أنه بذلك - قد خلا الديوان من التصنع، حيث اعتمد «الغاياتي» علي كتابة الصياغات الادبية الملائمة للاحداث السياسية والتي - من المفترض - ان تقرب القارئ من مستوي الحدث وتجلياته المتعددة. كما يري الطماوي أن من أهم خصائص الديوان أنه يعد رائدا في مجال الشعر المتخصص، حيث انتشرت - في ذلك الوقت - الدواوين المليئة بشعر الغزل والمدح والرثاء وغيرها من الاغراض الشعرية القديمة إلا أن «وطنيتي» جاء خاصا بشعر الوطنيات وهذا ما يشير اليه محقق الديوان بعبارة دالة علي شخصية الشاعر: حين يقول: «ديوان وطنيتي» بمستوياته الفنية المتفاوتة يعبر عن شاعر أثر الانخراط في مشكلات عصره، ولم ينعزل عنها، ليلحق باحلامه الغامضة في الآفاق المترامية، حيث رغب الشاعر ان يتحرك ويتواصل مع الناس».