قد لا يكون الشيخ على الغاياتي اسمًا معروفًا في عالم الشعر والشعراء، وليس له بصمة بارزة في الساحة السياسية، لكنه معروف في التاريخين الثقافي والسياسي بديوانه الوحيد ذائع الصيت: «وطنيتي». الذي ظهرت طبعته الأولى في يونيو سنة 1910، وترتبت على نشره نتائج وتداعيات، طالت الشاعر ومن كتبا له مقدمة الديوان: الزعيم محمد فريد والشيخ عبدالعزيز جاويش. هجرة ومحاكمات بعد أيام قلائل من نشر ديوان «وطنيتي»، قامت سلطة الاحتلال الإنجليزي بمصادرته، وبادر الشاعر بالسفر سرًّا إلى الأستانة، ومنها إلى سويسرا، حيث أقام سبعة وعشرين عامًا، ثم عاد إلى مصر في يونيو سنة 1937، بعد أن تغيرت معالم الخريطة السياسية والاجتماعية جذريًّا، فلم يعد للاحتلال الإنجليزي ما كان له من سلطة ونفوذ. حوكم الغاياتي غيابيًّا بعد هروبه، وحُكم عليه بالحبس سنة، وعوقب الشيخ عبدالعزيز جاويش بالحبس ثلاثة أشهر، لأنه كتب مقدمة يشيد فيها بالشاعر، وللسبب نفسه تعرض الزعيم محمد فريد لمحاكمة قضت بحبسه ستة أشهر، وبعد الإفراج عنه هاجر إلى أوروبا ولم يعد. عندما صدر ديوان الغاياتي، أهدى الشاعر نسخة منه للشيخ علي يوسف، صاحب جريدة «المؤيد» ورئيس حزب «الإصلاح على المبادئ الدستورية»، وسارع الصحفي السياسي، المعروف بولائه للخديو عباس حلمى، فكتب مقالاً يستعدي فيه النيابة على صاحب الديوان!. المثير للدهشة أن القصائد التي يتضمنها الديوان قد نُشرت جميعًا في جريدة «اللواء»، ولم تجد فيها النيابة مأخذًا يستدعى التحقيق، لكنها استجابت بلا إبطاء لما كتبه الشيخ على يوسف، و«اكتشفت» أن القصائد تحرض على العنف وتثير الفتنة، كما أن المقدمتين اللتين كتبهما فريد وجاويش تنطويان على تحبيذ قصائد الديوان، التي تنطوي بدورها على تحبيذ جرائم القتل. ليس في قصائد الديوان ما يبرر التحرك السريع للنيابة، وكأنها بصدد جريمة خطيرة متكاملة الأركان، وتخلو مقدمتا فريد وجاويش من مؤشرات التحريض والحض على الكراهية والعنف؛ ذلك أن الطابع السياسي فيهما يتوارى أمام الخطاب الثقافي، حيث الدعوة إلى شعر جديد، يتمرد على المعاني الموروثة والأساليب المألوفة، ويبحث عن التجديد والاتصال بالحياة وما ينشغل به الشعب من قضايا واهتمامات. القضية المصنوعة على عجل سياسية في جوهرها، والهدف هو تحذير وتهديد الزعيم محمد فريد، والشيخ جاويش الذي يعد من كبار قيادات الحزب الوطني. رسالة الشعر يكتب الشيخ جاويش في تقديمه للديوان: «قد يتوهم بعض المتشاعرين أن الشعر هو تلك الجمل الموزونة، ذات الروي الملتزم، فنراهم أجرأ ما يكونون في تقصيد القصائد والانتساب إلى دعوى الشعر، معتمدين على جهل كثيرين بأسرار الشعر ومزاياه، إذا شئت أن تعرف جيد الشعر فدع عنك تفاعيل البحور والتزام الحروف ومحسنات الألفاظ، واعتبر بما يتركه في نفسك من الأثر». الأمر هنا يتعلق برسالة جديدة للشعر ووظيفة مختلفة للشاعر، والاختلاف مع رؤية الشيخ جاويش، أو الاتفاق معها، ينبغي أن ينهض على أرضية الشعر ومن منطلق الإبداع، فلا سياسة في كلماته، ولا تحبيذ على الكراهية والعنف كما تقول النيابة وتصدقها المحكمة. ولا يختلف الامر كثيرًا في مقدمة محمد فريد، فهو يختتم كلمته القصيرة قائلاً: «فعلى حضرات الشعراء أن يقلعوا عن عادة وضع قصائد المديح في أيام معلومة ومواسم معدودة، وأن يستعلموا هذه المواهب الربانية العالية في خدمة الأمة وتربيتها بدل أن يصرفوها في خدمة الأغنياء وتملق الأمراء والتقرب من الوزراء، فالحكام زائلون والأمة باقية». لا يتطرق فريد وجاويش إلى الديوان نفسه، والثابت أن الشيخ جاويش قد ألقى نظرة سريعة على قصائد الغاياتي قبل أن يكتب المقدمة، أما محمد فريد فقد كتب «التقريظ» من بوابة المجاملة، ولم يقرأ قصائد الديوان، ويتجلى ذلك بوضوح في تجنب الحديث عن الشعر والشاعر. لا يخفي علي الغاياتي انتماءه وولاءه للحزب الوطني؛ فهو يهدي الديوان إلى «شهيد الجهاد فقيد البلاد مصطفى كامل باشا»، ويثني أحمد الثناء على «قائدي زمام الحركة الحاضرة، رئيس الحزب الوطني وتحرير لسان حالة، حضرتي محمد بك فريد، والأستاذ الشيخ عبدالعزيز جاويش». ويبدو الشاعر مفرطًا في حماسه عندما يقول في تصديره: «فلئن حييت لأنصرن مبادئ الحزب الوطني نصرًا، ولأطلعن في دياجي الخطوب من حياتي فجرًا، ولأجودنَّ بالنفس يوم تدعو البلاد للأمر حرًّا، بلا لأغيرن إن استطعت وجه التاريخ الحديث في مصر تغييرًا تخر له جبابرة الظالمين سجدًّا، يبكون خشية وفَرَقًا، ويرفع الوطن المفتدى رأسه مهللاً مبكرًّا منصورًا إن شاء الله». ما أكثر المنتمين إلى الحزب الوطني خلال المرحلة التاريخية التي صدر فيها الديوان، لكن اللافت للنظر بحق في كلمات الغاياتي هو ذلك الإسراف غير المبرر في المراهنة على ما يستطيع أن يقوم به: “,”لأغيرن إن استطعت وجه التاريخ الحديث في مصر تغييرًا تخر له جبابرة الظالمين سجدًا“,”، فمثلاً هذه الكلمات تعبر عن نرجسية مريبة، وبخاصة عند النظر إلى هجرته الطويلة خارج الوطن، قانعًا في سنوات المنفى الاختياري بالزواج وتأسيس صحيفة عربية وأخرى فرنسية، فهل يتغير تاريخ مصر الحديث بزواجه وصحيفته؟!. وثيقة وشهادة تقدم قصائد ديوان “,”وطنيتي“,” شهادة مهمة عن واقع الحياة المصرية في العقد الأول من القرن العشرين، فالشاعر الأزهري الثائر ينشغل بالحركة الوطنية وزعيميها مصطفى كامل ومحمد فريد، ويكتب عن اللورد كرومر ومأساة دنشواي، ويمدح الخليفة العثماني والخديو عباس، وينتقد تصريحات لأمير الشعراء أحمد شوقي، ويتطرق إلى الأزهر ورسالته ومكانته ويسجل رأيه شعرًا في مشروع مد امتياز شركة قناة السويس، ويعلق على اغتيال رئيس النظام بطرس باشا غالي، الذي قُتل بمعرفة “,”إبراهيم أفندي ناصف الورداني، صاحب صيدلية الورداني بشارع عابدين“,”. الديوان بمثابة السجل الحافل لما يحدث في مصر ويتفاعل معه الشاعر المتطرف في وطنيته، ولا شك أن أهمية الديوان تقترن في المقام الأول بمضمون القصائد وما تحويه من الأفكار والرؤى، دون نظر إلى مستواها الفني ودرجة شاعريتها، ويتجلى ذلك بوضوح عندما يقول علي الغاياتي في تصديره: “,”أما منزلتي في الشعر والحكم عليَّ باعتباري شاعرًا، فهذا ما لا عناية لي به ولا اهتمام لي بشأنه، وما الأمر فيه إلا بيد الأجيال المقبلة وحدها، إن شاءت كنت لديها من المحسنين، وإن لم تشأ فلا حرج عليها، على أنني لا أعنى في قولي إلا بإبداء شعوري الخاص وشعور الرأي العام، وأبرز ما تدعو الحوادث الهامة في النفوس الوطنية من آثارها في صورة ترضاها عامة الشعب ولا تأباها خاصته“,”. في السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، كانت مصر تتهيأ للنهوض وتعويض ما فات، وكان الشاعر حريصًا على أداء دوره الوطني، كما يفهمه، مستعينًا بالشعر، متأملاً فيما يكتبه شعراء الأمم المتحضرة من قصائد وطنية، تفجر الحماس في أعماق القلوب العطشى إلى الحرية والسيادة. بعد أكثر من مائة عام، يبدو ديوان “,”وطنيتي“,” بكل ما يحيط به من تداعيات، جديرًا بالقراءة والاهتمام، ليس من منظور شعري فحسب، بل أيضًا من منطلقات سياسية وتاريخية.