في شارع "نوبار باشا" - الدواوين حاليا- يوجد البيت الكبير رقم 31، الذي تشغله الآن مدرسة "عابدين الابتدائية"، في هذا البيت أسس مصطفى كامل جريدة "اللواء" في سنة 1900، هذه الساحة شهدت انعقاد أول جمعية عمومية لأول حزب سياسي علنى عرفته مصر "الحزب الوطنى "، وشهدت الأعضاء القادمين من جميع أنحاء القطر ينتخبون مصطفى كامل رئيسا مدى الحياة، مدى حياته القصيرة، وهنا كانت منصة وقف عليها "مصطفى" يلقى برنامج الحزب. بعد سنتين من رحيل زعيم "الحزب الوطنى" ومؤسس جريدة "اللواء" نجد أنه قد حل محله في رئاسة الحزب رجل بدين وقور سريع الكلام، يضع على عينيه نظارة ذهبية أنيقة، هو محمد فريد، أما رئيس تحرير الجريدة فهو الشيخ عبد العزيز جاويش. وفى إحدى حجرات الدار، كان هناك شابا معمما ثائرا، يعمل مصححًا في الجريدة، وينظم من حين لآخر قصيدة ملتهبة تنشرها له "اللواء"، هو الشيخ "على الغاياتى" الذي جمع مجموعة قصائده لينشرها في ديوان، وذهب غلى محمد فريد وعبد العزيز جاويش يطلب من كل منهما أن يكتب له كلمة تقديم، وكتب له محمد فريد عن "أثر الشعر في تربية الأمم"، وكتب له عبد العزيز جاويش مقدمة أخرى، ولم يمض شهران حتى كان ديوان "وطنيتى" قد خرج إلى الناس.. وفجأة.. أصدرت الحكومة أمرًا بمصادرة الديوان ومنع تداوله، وبمعاقبة كل من يضبط متلبسا بجريمة عرض الكتاب للبيع، ونشرت الصحف أن النيابة العامة ستقدم إلى المحاكمة كل من شارك في إصدار الكتاب. وكان محمد فريد مسافرا في أوربا، وعلى الغاياتى في تركيا، لم تجد النيابة في القاهرة إلا عبد العزيز جاويش ورجل اسمه "إلياس أفندى دياب" صاحب مكتبة ضبطت تبيع الديوان، وانتهت النيابة من تحقيقاتها بسرعة، وقدمت "الغاياتى" – غيابيا- وجاويش وإلياس دياب إلى المحاكمة، وكانت تهمة "الغاياتى" القذف في حد الوزراء والمحاكم والحض على كراهية الحكومة.. حكومة الاحتلال طبعا- أما تهمة جاويش فهى أنه حرض "الغاياتى" على ذلك، وساعده على إخراج الديوان بالمقدمة التي كتبها له. ورغم صدور حكم على كل من "الغاياتى" الذي حكمت عليه المحكمة – غيابيا- بالحبس سنة مع الشغل، وعلى جاويش بالحبس 3 أشهر وعلى إلياس دياب بالحبس شهرين مع إيقاف التنفيذ، على أن هذا كله ليس هو القضية، لكنها كانت قضية محمد فريد، الذي تصيدت الحكومة هذا الكتاب لكي تتمكن من إيذائه، وكانت الأحكام التي صدرت لا تتعدى كونها "بالون اختبار" لمعرفة مصير "محمد فريد" إذا قدم إلى المحاكمة بمجرد عودته من أوربا، وكان اتجاه الحكومة ونيتها إلى تحطيم "فريد" واضحًا تماما قبل هذه المحاكمة بشهور عدة. وبعيدا عن هذا... لا يجب أن نتجاهل حقيقة العمل الذي يقوم "محمد فريد" بتأديته في أوربا في الوقت الذي كانت ترتب له الحكومة "فخ السجن"؟ زعيم "الحزب الوطنى" لم يكن يلهو ويتنزه، ولم يكن ينفق أمواله في متعة أو هواية، بل كان في نفس الأيام التي انعقدت فيها الجلسات لمحاكمة أصحابه يستعد لعقد مؤتمر دولى في باريس لبحث المسألة المصرية، وقد أنفق على المؤتمر من ماله، واستخدم نفوذه لكى يحضره أكبر عدد من الساسة والنواب والزعماء وجميع العناصر المعادية للاستعمار في أوربا، والهند، والشرقين الأوسط والبعيد، وقبل عقد المؤتمر بأسبوع قررت الحكومة الفرنسية منع اجتماعه في باريس، حرصا على معاملة انجلترا، فأسرع فريد بنقل مقر المؤتمر إلى بروكسل. أثناء فعاليات المؤتمر تلقى محمد فريد أنباء مصر، استمع إلى صوت واحد رقيق، ينبعث من خطاب نادر المثال، خطاب من ابنته "فريدة" التي شبت على حجره وتشربت عقيدته، أرسلت إليه الابنة الشابة تطلب منه – دون الناس جميعًا- أن يعود إلى مصر، ويدخل السجن حيث قالت له: "لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال إنكم هربتم، وأختم جوابى بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن..!". وحزم محمد فريد حقائبه وركب الباخرة وفى طريقه إلى السجن.. أعلن "فريد" أن مطالب مصر هي "الجلاء والدستور""، مؤكدا أن المصريين لن يرضون بأحدهما بديلا عن الآخر، ولا تلهيهما المطالبة بأيهما عن الثانى، هما سويا، هما معا، لغاية واحدة في طريق واحد". ومن أجل تحقيق تلك الأهداف بدأ يعدد الوسائل التي ستمكنه من الوصول إليها في النهاية، فأنشأ المدارس الليلية في الأحياء الشعبية لتعليم الأميين الفقراء مجانًا، وعهد بالتدريس فيها لرجال الحزب الوطنى وأنصاره، فكنت ترى المحامى الكبير أو الطيب الناجح يخصص من وقته ساعة أو بعض ساعة كل مساء، يقف فيها في حجرة ضيقة خشنة بسيطة يعلم الفقراء مبادئ القراءة والكتابة وجغرافيا بلادهم وتاريخها، وأنشأ أول الأمر أربع مدارس في بولاق والعباسية والخليفة وشبرا، ثم انتشرت المدارس الليلة في الأقاليم. كما وضع "فريد" أساس حركة النقابات، فأنشأ أول نقابة للعمال في سنة 1909 وهى نقابة عمال الصنائع اليدوية ووضع لها قانونا وأنشأ لها ناديا، ثم انتشرت النقابات، لينتقل بعدها إلى الزحف السياسي، ودعا الوزراء إلى مقاطعة الحكم، وقال "من لنا بنظارة – أي وزارة – تستقيل بشهامة وتعلن للعالم أسباب استقالتها؟ لو استقالت وزارة بهذه الصورة، ولم يوجد بعد ذلك من المصريين من يقبل الوزارة مهما زاد راتبه، إذن لأعلن الدستور"لنلناه على الفور..". وعرفت مصر "لأول مرة، المظاهرات الشعبية المنظمة، كان "فريد" يدعو إليها، وتجتمع في حديقة الجزيرة عشرات الآلاف، ثم تسير إلى قلب القاهرة هاتفة بمطالبها، مشتبكة بالبوليس، مضحية بالعشرات. حكاية السجين رقم 198 والزنزانة 44 جاء اليوم الذي تنطق فيه المحكمة بحكمها في قضية "ديوان الغاياتى" المتهم فيها محمد فريد.. خلت المحكمة للمداولة، فلم يطف بخاطرها سبيل واحد للرأفة، بل وجدت أن "وفرة معارف فريد وسعة تجاربه تجعله أكثر تقديرا وأعظم مسئولية"، أي تستوجب تشديد الحكم، وخرجت إلى القاعة تنطق بالحكم " الحبس ستة أشهر"..!! وجمت القاعة في لحظة الصدمة، ثم ارتفع البكاء والنحيب، و"فريد" ما كان منه إلا أن يلتفت إلى الحاضرين ويلومهم – في جلال- على هذا البكاء، وأدار ظهره للجميع، ليخطو بخطوات ثابتة إلى السجن، وذهب "فريد" إلى سجن الاستئناف في باب الخلق، وأصبح يحمل تعريف "السجين رقم 198 " القابع في الزنزانة رقم 44. ومرت الشهور الستة.. وجاء يوم 17 يوليو الذي يجب أن يفرج فيه عن "فريد"، وتجمع الناس في ميدان باب الخلق، وأقبل الليل، وجلس الناس على الأرصفة والمقاهى، وناموا بجوار الجدران، وعيونهم لا تبرح باب "المحافظة" الكئيب، ويئست السلطة من انصراف الناس، فلجأت إلى حيلة أخرى تتلافى بها احتفال الناس بخروج الزعيم، إذ خرجت – في نفس الوقت- سيارتان مغلقتان، متشابهتان، وانطلقت كل منهما في طريق، وحار الناس لحظة، في أي عربة جلس "فريد"؟ ثم لمحه واحد من الناس فصرخ، وجرى خلفه الباقون، وكانت الساعة الخامسة صباحًا، وتيقظت المدينة على تظاهرة مبكرة، تتكاثر وتتسع حتى وصل "فريد" إلى بيته في "شبرا". المصادر: أحمد بهاء الدين «أيام لها تاريخ» ومحمود السعدني «مصر شكل تاني» ومصادر متنوعة.