يجمع 'الكورس' الجالس فوق السلالم المتصدّعة لليبرالية الغربية أناشيدَه القديمة، ويعيد قذفها علي رؤوسنا من جديد، هؤلاء الذين لم ينطقوا علي امتداد أكثر من عامين، بموقف واحد ثبتت صحته، ولا برؤية واحدة برهنت علي سلامتها، فجميع ما اتخذوه من مواقف، وما نطقوا به وأخرجوه للناس، ونشروه وأطلّوا به من نوافذ الإعلام، وهم يرتدون ثياب الثورة حينًا، وثياب الحكمة حينًا، وثياب الوطنية أحيانًا، أكدت الأيام أنه لم يكن إلا تعبيرًا مأزومًا عن أزمتهم، ولم يكن إلا تنزيلا من حيث يأتي الوحي إليهم. *** بعد أن غيض ماء الشعب من حول سفينة 'الجماعة' عمدتْ إلي أن تملأ بحرًا من دماء المصريين لعلها تتمكن من الإبحار فيه، وبعدما حاصرتها الدماء الزكية ها هم يبادرون إلي إلقاء 'هلب' النجاة إليها، كي ترسو علي الجودي، أو قل علي رصيف من أجساد الشهداء، وبعد أن أخرج الاتحاد الأوروبي من جوفه إشارات نارية حارقة بعقاب مصر، وجدوا فيما أخرجه الأوروبيون بردًا وسلامًا، وكأن المشكلة ليست في مبدأ الاتهام والعقاب، وإنما في درجته وكأننا دولة مقهورة عليها أن تقبل صاغرة بأن تكون متهمة زورًا، ومعاقَبة استكبارًا، طالما صدر الحكم الجائر من أصحاب السيادة في الغرب، ولست أعرف ماذا سيقولون عن تلك المعادلة العدوانية، التي تنطق بشرٍّ مستطير، والتي جمع فيها السيد أوباما بين مصر وسوريا، مهددًا باتخاذ موقف حازم، فربما يستحسنون تكرار هزّ رأسه ثلاث مرات بالإيجاب عندما سُئل: هل سيكون القرار قريبًا؟ وربما يجدون في هجومه الغاشم علي الجيش المصري، ما يعبر عما يعشش في قلوبهم من مرض، أن أكثر ما يوزعونه علي الناس من صناعة فاسدة، هو محاولة تزوير المشهد في مصر، وتزوير الصراع علي مصر، وبين يدي مصر، رغم أنه مشهد ناطق. نحن نعيش أيها السادة، أكبر وأخطر وأهم مبارزة استراتيجية في القرن الحادي والعشرين، سوف تمتد آثارها ونتائجها وتفاعلاتها زلزلة عميقة في محيط عقود طويلة ممتدة، وفي مدي جغرافيا واسعة تطوي ما وراء التخوم البعيدة، وهي لا تقارَن من حيث النوع والدرجة، إلا بتلك المبارزة الاستراتيجية الفاصلة، التي فرضت علي الظاهرة الاستعمارية أن تعلن عن هزيمتها الكاملة، وخروجها الفاجع من التاريخ، وفرضت علي الدول التي شكلتها هبوطا من قمة النظام الدولي، إلي ما يقترب من سفحه. ولقد كانت مصر في المرتين، هي أرض المبارزة وسيفها القاطع، كما كان شعبها وجيشها هما طاقة المواجهة وإرادة الفعل. ودون تقدير ما حدث ويحدث في مصر بمعيار هذا الميزان التاريخي، فإننا لا نضع ثورة الشعب المصري في الثلاثين من يونية، ولا الموقف البطولي للجيش ولا الدور القائد للفريق أول عبد الفتاح السيسي في ميزان التاريخ بشكل صحيح. كما أننا بالتالي لن نستطيع أن نلاحق الظواهر المترتبة عليها، ولا أن نقطف الثمار الكبيرة الناضجة، التي أخصبتها حضارة الفعل وجسارة المواجهة. *** إن المصريين لم يخلعوا عرش سلطة تابعة مستبدة، غير وطنية، سقطت معنويًا قبل أن تمتد أيديهم إليها، كما أنهم لم يواجهوا موجة إرهابية عاصفة، استخدمت وتستخدم أخس معاول الهدم، وأحط أدوات الخراب، للعصف بهم وبجيشهم وبدولتهم، فذلك كله لا يخرج عن ظواهر الأشياء وسطوح الوقائع. فقد أسقط المصريون استراتيجية كونية أوسع من حدودهم وكيانهم وإقليمهم، فهي ليست علي مقاس الشرق الأوسط وحده، لأنها تحتوي عدة قارات، وهي لم تكن تستهدف تغيير موازين القوي في الإقليم، وإنما في العالم. وبالقدر نفسه فهم لا يواجهون نزعة ثأر أو موجة شر، أو عاصفة إرهاب محلي، انتقامًا مما فعلوه، أو انتقاصًا مما حققوه، وإنما يواجهون أدوات إرهابية، هي جزء من بنية هذه الاستراتيجية، تحاول جاهدة بما هي مجبولة عليه، وما هي مدفوعة إليه، وبما وُضع في حوزتها من مساعدات وحوافز وأسلحة وتوجيهات، أن تحبط فعلهم، وأن تكسر إرادتهم، وأن تهيئ في المحصلة النهائية القواعد اللازمة لوثوب قوة أجنبية مسلحة داخل حدودهم، بعد أن تبدد الرهان علي احتوائهم من داخلهم. *** ومن المؤكد أن مصر الموحدة، سوف تطوي صفحة هذا الإرهاب، ضيق الأفق خلال أيام وربما أسابيع قليلة، ومن المؤكد أن قوة اندفاعه سوف تتراجع يومًا بعد يوم، وأن أسلحته ستتكسر علي صلابة مقاومتهم ساعة بعد ساعة. لكنه من المؤكد أيضًا أن ميدان هذه المبارزة التاريخية سيظل مفتوحًا، أمام منصات أسلحة أخري، لن تكون بعيدة عن محاولات مستميتة لفرض أنماط من الاختراق، ومن الفتنة، ومن الإكراه الاستراتيجي والعسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي عليهم. *** في الصراعات أو المبارزات الاستراتيجية التاريخية، التي نعيش واحدة من أوضح صورها، فإن نتيجة الصراع لا تتحدد بمقدار ما يضغط به الطرف الأقوي، ولكن بمقدار ما يقاوم به الطرف الأضعف، وتعبير المقاومة هنا لا ينصرف إلي الدلالة العسكرية البحتة، وإنما إلي جميع مستويات الصراع سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ذلك أن ما يواجهنا بوضوح، هو أيديولوجية للسيطرة آخذة في التعمق، وهي لم تصل بعدُ إلي شاطئها المأمول، ولذلك لابد أن تواجهها أيديولوجية للمقاومة. وسواء شئنا أو لم نشأ، فإن نمط الضغط ونمط السيطرة سيحدد بنفسه نمط المقاومة. لكن علينا أن نرشد رؤيتنا وبالتالي خطواتنا بمفاهيم صحيحة، لأن المفاهيم الدعائية المغلوطة المنتشرة في فضاء واسع، بمقدورها أن تجعل الأمر أكثر صعوبة وأكبر تكلفة. إن أحد أسباب الاختباء وراء ساتر حقوق الإنسان، هو أن يفُرَض علينا أن نتخذ مواقف دفاعية، قد يتصور بعضنا بحسن نية أو بسوء فهم، أن العدالة والمنطق يمكن أن يتنزل من فوق منصاتها، وسوف يجرُّ مثل هذا التصور الدفاعي البحت علينا ضغوطًا أكبر، لذلك فلا ينبغي أن نتقبل بوجود قائمة اتهام وإلا فرضنا علي أنفسنا موقف دفاع، كما يرتبط قبول هذا المفهوم الدفاعي الضيق باللجوء إلي أساليب التهدئة المكررة، وتقليل مساحات التعرض، أي تعميق دبلوماسية المهادنة، ولذلك ينبغي أن يكون واضحًا أن التمويه علي مساحات الخلاف لن يجدي في تضييقها، ولكنه سيعطي الطرف الأقوي فرصة لتوسيعها وتعميقها. *** يرتبط المفهوم ذاته إعادة السعي لتوفيق السياسة الاقتصادية مع صندوق النقد الدولي، كما يبدو من أقوال الحكومة، وهو أمر ينحشر في إطار المفهوم الدفاعي الضيق أيضا، بل هو أكبر عمل مضاد يمكن أن يوجَّه ضد الثورة المصرية، وضد قضية الاستقلال الوطني. ولا أبالغ بالقول إنه يمثل أحد معاول تقويضها، فالذين أرادوا من بداية الألفية أن ينجزوا اقتصادًا غير تابع، وإرادة وطنية غير منقوصة، ذهبوا وسددوا ديونهم للصندوق سلفًا، تحررًا من الشروط المفروضة عليهم، وفي مقدمتهم دول مثل روسيا والبرازيل وإندونيسيا، بل الأرجنتين وتايلاند وصربيا. *** ولهذا أحسب أن هذا الجموح العدواني من جانب الولاياتالمتحدة، وهذا النكوص الأوروبي علي القيم الإنسانية التي ساهمت أوربا في صنعها، هما من الجانبين دليل واضح علي استنفار غريزة البقاء كقوة حاكمة أو شديدة التأثير في النظام الدولي، مع مضاعفات الأزمات الكبري التي تحيط بأوزانها استراتيجيًا وعسكريًا واقتصاديًا، علي الجانب العسكري فإن بريطانيا اضطرت منذ العام الأسبق إلي تخفيض ميزانيتها العسكرية بنسبة 7%، وسرَّحت 27000 عسكري، وأطاحت بعدد 19 سفينة حربية من أصل أسطول يضم 24 سفينة، ولا يزال قادة البنتاجون يواصلون الصراخ من استمرار التخفيض في الموازنة العسكرية، ووفق تقديراتهم فإن تخفيض الموازنة سيؤدي إلي تخفيض نسبته 15% من القوة البرية الأمريكية، وإلي تقليص تكلفة النقل بالاعتماد علي قواعد في الخارج، وإلي تقليص العمليات بما في ذلك أعداد حاملات الطائرات، التي تجوب البحار والمحيطات، فلن تتواجد في بحر العرب والشرق الأوسط بدءًا من العام المقبل، سوي حاملة طائرات واحدة. وإذا كان الدخول في حروب جديدة قد أصبح بالغ الصعوبة، فإن مبدأ خوض حربين معًا قد أصبح مستبعدا تماما من الاستراتيجية الدفاعية، كما تم إنهاء فكرة 'رامسفيلد' لخصخصة الجيوش اعتمادًا علي الشركات الخاصة، بتقليص الاعتماد علي هذه الشركات بعد ضغط الموازنة. وفي المحصلة فهناك انكماش عسكري أمريكي إجباري يترتب علي أزمة اقتصادية مستفحلة وانكماش اقتصادي جبري بدوره. وباختصار فقد فشلت القوة العسكرية القاهرة، بعد أن أصبحت حسابات التكلفة أكبر بكثير من العوائد، كما أن الأوضاع المالية ذاتها لم تعد قادرة علي الوفاء بها. وإذا لم يعد الغرب كله قادرًا علي توجيه العمليات التاريخية في العالم العربي، وإذا كان مبدأ السيطرة باستخدام القوة لم يعد ممكنًا، فلا بديل عن تجييش وتوظيف سلاح جديد لخلق الفوضي، وتلك هي بالضبط المهمة والوظيفة التي يقوم بها هؤلاء الإرهابيون باسم الإسلام، وتحت علم القاعدة. *** ومع ظواهر الفشل المحدق ببنادق الفوضي الأمريكية في مصر، فإن ثمة علامات تومض في أفق الإقليم تؤكد أن الفشل في التصعيد الرأسي في مصر، سوف تتم محاولة احتوائه بتصعيد أفقي سيطرق الأبواب علي عجل. Email: [email protected] Site: ahmedezzeldin.com