كنت قد ذبت كغيرى فى المشهد تمامًا وتحولت إلى بقعة لونية صغيرة فى محيط واسع لا نهائى من الألوان والظلال والأصوات وكأن المصريين جميعًا وقد توحدوا، تحولوا إلى خيوط متشابكة تشكل نسيج العلم الذين غدا على مقاس الوطن كله ولكنه علم من لحم ودم. أو كأنهم انسكبوا فى موسيقى النشيد الوطنى واصطفوا فى مفرداته وانبعثوا فيضا حيًا من النبض، أخذ يسرى فى كل شيء بينهم ومن حولهم بما فى ذلك الأشجار والأرصفة والأسفلت وأحجار البنايات، وأعمدة الجسور، التى أخذت بدورها تتوحد معهم وكأنها تتنفس من صدورهم. تلك ليست لحظة عابرة فى التاريخ بل هى التاريخ ذاته وتلك ليست حالة مصرية استثنائية بل هى قاعدة مصرية راسخة فهكذا فى كل مفصل حاد، ومنحدر صعب يخرج المصريون من ذواتهم ويستحضرون التاريخ أمامهم ويروضونه ويفرضون إرادتهم عليه ولكن السؤال الذى يفرض نفسه هذه المرة: كيف يجىء التاريخ منضغطًا إلى هذا الحد مكثفًا إلى هذه الدرجة وكأن مصر اختزلت تاريخها كله فى ليلة واحدة أو بضع ليال كما يتكثف النهر فى قطرة ماء أو بضع قطرات وكما اختزلت تاريخها على هذا النحو، اختزلت صور أبطالها فى صورة واحدة أو بضع صور، ومن المؤكد أنه ليس ثمة مصادفة فى التاريخ ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن تكون لحظة الفيضان الوطنى العظيم على مسافة ثلاثة أيام من ذكرى ثورة يوليو 1952 وعلى بعد أسبوع من العبور العظيم فى العاشر من رمضان وفى يوم خروج الملكية نفسه من مصر مجسدة فى بدن فاروق. وفى ذكرى اليوم نفسه الذى فرض المصريون فيه إرادتهم على العالم وانتزعوا قناة السويس من براثن الاحتكارات الاستعمارية وعلى مسافة ساعات من مرور عام على يد الغدر التى امتدت إلى ستة عشر جنديًا. قرب بوابة مصر الشرقية لا تزال دماؤهم تتوهج ثأرًا فى أفئدة المصريين ولذلك ليس من قبيل الوهم أو التوهم أن تشعر وسط أمواج الناس المتدفقة المتدافعة أنك ترى وجوهًا عديدة من بينها وجوه تحتمس وإبراهيم باشا ومصطفى كامل ومحمد فريد وعرابى والبارودى وزغلول والنحاس وعبدالناصر والسيسى وهم يتعانقون تحت تمثال عبدالمنعم رياض فى ميدان التحرير. قد يكون ما حدث حالة شعبية استثنائية فوق تخوم الدنيا الواسعة ولكنه باليقين ليس حالة استثنائية فى تاريخ الشعب المصرى فكل تخلف حضارى فى تاريخ هذا الوطن كان مؤقتًا. فمصر تسابق كى تسبق وتستيقظ كى تقوم وتقوم لتنهض وتنهض لتصعد.. وتتبوأ مكانها الصحيح وتضبط الموازين وتعدل وتجدد وتفرض السلام، إن أحدًا لا يتصور فداحة الثمن الذى دفعته مصر لكى تصون موقعها وتحرر إرادتها فكما كان حال سياسة دول غرب أوربا البحرية تجاه مصر خاصة بريطانيا كان هذا هو حال ومفهوم الدولة العظمى الأولى تجاه مصر دائمًا وهو مفهوم يتلخص فى عدم السماح بقيام مركز قوة دولى حقيقى فى مصر.. وهو بالتالى نقيض سياسة مصر منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر والتى كانت فى جوهرها محاولة على الجانب الآخر لبناء قاعدة قوة فى المنطقة تسترد مصر بموجبها وظيفتها الحضارية الإقليمية التى طوقتها الدولة العثمانية ولعل هذا ما يفسر عمق المضاربة السياسية بين القوى العظمى كإحدى الركائز التاريخية لمدرسة الدبلوماسية المصرية، فعلى بك الكبير وليس جمال عبدالناصر هو الذى تحالف مع روسيا القيصرية ففى كل مرحلة لصعود قوة عظمى كانت مصر لا يمكن استبعادها من الاستراتيجية الكونية للقوة العظمى الساعية إلى الهيمنة المنفردة على الساحة الدولية، فدون إخضاع مصر يصعب على استراتيجية دولة عظمى أن يكتمل نجاحها ولهذا فإن انجلترا لم تنجح فى بناء امبراطوريتها بغزو الهند. وإنما بانتصارها فى معركة أبوقير البحرية ولهذا فإن إمبراطورية نابليون انهارت ليس بنتائج معركة واترلو وإنما بنتائج معركته لاحتلال مصر كما أن الامبراطورية الرومانية لم تصبح قوة دولية إلا عندما تقدمت فوق الجسور المصرية ولهذا كانت الضربات التى وجهت إلى مصر وما تكبدته من نزيف فى الطاقة والقوة بالغة العنف ربما حد التصفية فى أعقاب كل محاولة لبناء قوة يرتفع على أكتافها دور إقليمى فاعل يزيل التناقض بين ثوابت الجغرافيا ومتغيرات السياسة بعمل حاسم أو يزيد التوافق بين المكان والمكانة. رغم ذلك فليست ثمة دولة فى الدنيا تقف تحت قبة مركز الكون وتتاح لها فرصة المناورة بموقعها كما يتاح لمصر، إذا انتقل البندول الاستراتيجى غربًا، فهى جزء أصيل من البحر الأبيض المتوسط، إلى حد أن «حمدان» عدها نصف أوربية وإذا انتقل البندول شرقًا بحكم نموات فى الثروة والطاقة فهى على خطوط الحركة المباشرة ليست قضبانا ولكنها قاطرة، وإذا تمحورت الجهود الدولية نحو إفريقيا فهى عاصمتها الطبيعية، بالمكانة والمكان، والعروبة والإسلام والنيل، ورياح الثورة التى زرعتها فى أنحائها. من ذا الذى تتاح له فرصة المناورة بموقعة الاستراتيجى كما تتاح لمصر؟ لنلاحظ أن محمد على كان قصد جهده هو تجديد الامبراطورية العثمانية من داخلها ارتكازًا على أمرين: وصل الإسلام بقاعدة العروبة، أى بقاعدة الإسلام الحضارى فى مصر ثم تعبئة القدرة المصرية المستندة إلى طاقة الجغرافيا والتاريخ والشعب كقاعدة إقليمية صالحة لنهوض امبراطورية مترامية الأطراف، قدر لها أن تسود مساحة تتجاوز نصف قارة أوربا ولنلاحظ أيضًا أن الإنجليز ورثوا عن الرومان فى علاقتهم بمصر مبدأ تحطيم دور العاصمة الحضارية فعندما تحولت مصر إلى عاصمة رومانية تم تحويلها إلى مزرعة خالصة للقمح والشعير، كما تم تحويلها مع الاحتلال البريطانى إلى مزرعة خالصة للقطن. وتحطيم دور العاصمة الحضارية يعنى تحطيم الدولة المركزية كمقدمة لتحطيم الدور. وقد نجح الآخرون فى تحطيم الدولة المصرية مرات ولكن الأمة بقيت واستطاعت أن تعيد بناء الدولة القوية فى كل مرة: إن الخطر يأتى من هنا تحديدًا، من تحطيم الدولة المصرية أو تقديمها ويأتى من إلغاء الدور الإقليمى لمصر، أو اقتناصه وهذا ما كان يجرى العمل عليه لتحقيقه على قدم وساق، لكن مصر برهنت باليقين مكانًا ومكانة، أنها سائدة لا متنحية، راسخة لا مهتزة ثابتة لا متغيرة هى الأقوى وهم الأضعف وهى الأغنى وهم الأفقر، وهى المطلق وهم النسبي، فى الأمس واليوم والغد. لهذا كله فإن هذا المشهد المصرى مفزع للغرب بل هو قمة دراما الفزع لكل أولئك الذين كانوا يرون أن أقدامهم قد تثبتت فى تربة مصر وأن أياديهم قد طوقتها، واعتصرت قلبها وانتزعت منها أمضى أسلحتها وهى إرادتها.. وهذا مشهد مفزع لأنه يمثل نزعة انقلاب شامل على استراتيجية كونية فتحت لنفسها طريقًا ومهدت لسلطانها أدوات وأسلحة وأرضًا.. وهو انقلاب يطول جميع محاور هذه الاستراتيجية وجميع أبعادها الدولية والإقليمية كما أنه يشكل بكل مقياس مفاجأة استراتيجية كبرى ربما للمرة الثالثة خارج تقديرات المواقف الأمريكية والغربية، وعلى النقيض من كافة الحسابات والتوقعات: أولاً: أن المكون الأمريكى من قرار السلطة السابقة استراتيجيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا كان قد أصبح غالبًا بل ليس ثمة مبالغة فى القول إنه أصبح حاكمًا حتى إن جميع قرارات هذه السلطة التى صدرت على امتداد العام المنصرم كانت مكتوبة بحبر أمريكى ثم إن هذه السلطة ذاتها ونظام حكمها كانا قد استطاعا أن يستبقا الزمن بالاستحواذ على أكثر من خمسين بالمائة من المواقع الأكثر تأثيرًا فى الحكم والإدارة بوسائل غير مشروعة وغير قانونية وغير ديمقراطية ثم التغاضى عنها علنا ومباركتها سرًا. ثانيًا: أن أجهزة التجسس والرصد الإلكترونى وكذلك أدوات الاختراق فى العمق كانت مشحونة وفاعلة وقادرة على أن تنزح في كل يوم تلالا من المعلومات وأن التقديرات التى بنيت عليها حتى الأسابيع الأخيرة كانت تعكس حالة من الطمأنينة بأن الأمور تجرى فى أعنتها ووفق ما هو مقدر ومخطط ومطلوب بينما لم يكن ثمة إدراك بأن جميع هذه المعلومات لا تمس إلا السطوح الخارجية فى الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن قلبها المحتقن وأنها بذاتها تقدم برهانًا على عدم القدرة على تجاوز السطوح وعلى غياب الكفاءة المنهجية فى بناء تقديرات موقف، تعتمد على المكونات الأكثر ثباتًا وعمقًا، والتى ترتبط بخصوصية البيئة الوطنية المصرية، بينما كانت قيادة العمل فى السفارة الأمريكية منكفئة حتى الغرق فى دفع مقدرات هذه الاستراتيجية غير منتبهة ولا عابئة بمتابعة حجم التأثيرات المضادة لها التى أنجبتها وقد أخذت تتراكم فى قلب ثورة البيئة، محدثة تغييرًا كيفيًا لا سبيل إلى احتوائه أو دفعه. ثالثًا: فى ضوء ذلك كان ثمة قناعة غربية بأن النخب السياسية الطافية على سطح المجتمع ليست موصولة بقواعده وأن تأثير معارضتها لا يخلق إلا هامشًا محدودًا من الرفض فى غياب القدرة على تعبئته ودفعة لكى يشكل عائقًا أو حاجزًا أمام استحواذ الجماعة على ما تبقى من مفاصل السلطة والحكم، فى الوقت الذى بدا فيه الشعب المصرى للعدسات المكبرة فى الغرب، أنه شعب أطلق طاقة هائلة فى ثورة طويت صفحتها، وقد استهلكته بحيث أصبح كاليورانيوم المستنفد، قد تخرج منه إشعاعات ولكنها مؤقتة فى الزمان ومحدودة التأثير فى المكان فضلا عن قناعة بريطانية، رسختها سنوات الاحتلال البريطانى لمصر، وظلت. قائمة فى مخيلته الاستعمارية وحواسه الأمنية مفادها أن الشعب المصرى غير قابل للثورة فى أيام الفقر والعوز، فهو لا يجنح إلى الثورة إلا فى أيام الرخاء والغنى وهى قناعة تستطيع أن تمسك بها فى كثير من الوثائق البريطانية إلى جانب انطباع عميق آخر، فإن هذا شعب مستكين ومناقد، لا تهيج أعصابه إلا رياح الخماسين التى كان البريطانيون يستبقونها بدفع أكثر من بارجة حربية، ترسو عند شواطئه. رابعاً: إن الأجهزة الأمريكية خاصة فى البنتاجون قد أصابها الارتباك فى الأيام الأولى لثورة 25 يناير حين أبصرت دخول الجيش المصرى على نحو مباشر فى دائرة الانحياز للشعب، ووفق تقرير معهد واشنطن الذى لم يصدر إلا منذ أشهر قليلة فإن «واشنطن لم يكن لديها علم كبير بكيفية استجابة الجيش المصرى خلال ثورة 25 يناير ورفضه إطلاق النار على المتظاهرين».. قبل أن يضيف التقرير بحروفه: «.. لأنه منذ عام 1979 لم تكن واشنطن برغم المساعدات السنوية التى قدمتها تعرف الكثير عن آراء المستوى المتوسط وهو ما يجعل الجيش المصرى مختلفا عن جيوش أخرى تتلقى المساعدات من واشنطن» وهكذا فقد ركز التقرير فى متنه بل كان جزءًا من النتائج التى توصل إليها، ضرورة أن يتم بذل الجهود لدراسة واستطلاع كيفية استجابة الجيش فى أوضاع أخري.. وقد أوكل هذه المهمة إلى وزير الدفاع الأمريكى بنفسه والشاهد أن البنتاجون قد سعى إلى أن يسترق السمع على نبض قيادة الجيش، رغم أن مخاوفه كانت متعلقة بالمستوى المتوسط من الضباط والشاهد أن الفشل كان من نصيبه فى الحالتين فقد تصور أنه أمام قيادة ممتثلة ومستوى متوسط من الضباط قد يكون قابلا للتمرد، غير مدرك أن بنية الجيش أكثر توحدًا، وانضباطًا من أى وقت مضى وأن قيادته أكثر إدراكاً للخطر، وأعظم شجاعة فى مواجهته وأنها أدق تقديرًا للموقف وأكثر انحيازًا للشعب، وأكبر انصياعًا للمصلحة الوطنية العليا. خامسًا: لقد قلت إن هذا مشهد مفزع للغرب، بل هو قمة دراما الفزع لكل أولئك الذين كانوا يظنون أن أقدامهم قد تثبتت فى مصر وأن أياديهم قد طوقتها واعتصرت قلبها وإرادتها ذلك أنهم أمام شعب أعادوا اكتشاف حيويته البالغة وقدرته على أن يجدد طاقته الهائلة كل يوم متشبثًا بصخرة وحدته الوطنية وهم أمام شعب عبقرى ليس بمقدور أحد أن يضلل وجدانه، أو أن يكسر إرادته لأنه يتحرك بقوة دفع التاريخ المشحون فى دمه، ويقاوم بغريزة الحضارة المتوهجة فى روحه، وهم أمام جيش ما زال رغم عاديات الزمن والمحن، وتقلب الأجيال والعقود، جيش عرابي، وجيش يوليو، وجيش العبور العظيم، ثم إنهم أمام قائد تنتج صورته بذاتها قلقًا مضافًا مضاعفًا، فقد خرج بالجيش ليحمى الشعب ويذود عن إرادته، عندما امتلأت الميادين بعشرات الملايين، عندما أوجز فى كلمات قليلة، طلبا له بالخروج والتفويض، وتلك هى عقدة العقدة فى الفزع من الحالة المصرية الراهنة، أن تكون الكلمة الأخيرة للكتل الجماهيرية الهائلة فى صورة غير مسبوقة للديمقراطية كما ولدت وكما بدأت مباشرة بغير حواجز ولا أوراق ولا صناديق أصوات حية فوق جغرافيا وطن كامل فاض بأهله كأنه فى يوم القيامة، وأن تمتد هذه الأصوات فوق جسر مفتوح من قلب هذه الحالة إلى قلب رجل، وأن يعبر فوق هذا الجسر الواسع من الاتجاهين قطار الكترونى مشحون بالوطنية والثقة والإيمان. عندما تعبر ثلاثة أرباع جسر الخروج من النفق المظلم إلى أفق الشمس والحرية والحياة، فليس عليك أن تتوقف وليس لك أن تنظر إلى الخلف، وليس من حقك أن تبطئ الخطى أو أن تتمهل سوف تتقافز من حولك بقايا أشباح سوداء، وسوف تتقاذف من حولك بعض أحجار الصبية والعابثين والمنافقين وسوف يغمسون أياديهم وسوف يسلطون عليك رياحًا قادمة من الغرب محملة بالعواصف والغبار وسوف يضعون فى وجهك شاشات كريهة تقطر كذبًا ونفاقًا وزورًا. أرجوك فى كل الأحوال، ألا تلتفت إليهم وألا تتوقف أو تتمهل، فلم يبق إلا الربع الأخير من الجسر، فاقطعه عدوًا بكل شجاعة الفرسان. بينما تتوهج الشمس فوق جبينك، وتتكاثر الأزهار والورود حول عنقك!.