للنيل دور كبير فى حياة شعوب دول حوضه عامة وفى حياة المصريين خاصة، ففى مصر القديمة قُدِّس النيل باعتباره مصدر الحياة والخير، حيث منحه المصريون القدماء فى ذلك الوقت رمزًا هو «الإله حابي» فتخيلوه على هيئة رجل جسمه قوى وله صدر بارز وبطن ضخم كرمز للخصوبة. فيضان النيل كان بمثابة الفرحة الشديدة التى تغمر قلوبهم قديمًا لتوقعهم أن الفيضان يعنى الزراعة والنماء والاستقرار وتجديد دورة الحياة، وعلى الجانب الآخر عدم فيضانه يعنى القحط والجدب وعدم وجود زراعة وحلول المجاعات والكوارث وعدم استقرار الحكم، فأدرك بذلك المصريون الأهمية الشديدة للنيل فى جميع شئون حياتهم لذلك بدأوا بعمل احتفالية «عيد وفاء النيل».. احتفل قدماء المصريين ب«عيد وفاء النيل» من خلال تقديم القرابين من تماثيل ذهبية يلقونها فى النهر، بالإضافة إلى إلقاء الأغانى وتأليف القصائد والأناشيد، وذلك عرفانًا منهم بجميل صنعه، كما حافظ القدماء أيضًا على نظافة وطهارة النيل من التلوث حيث اعتبروا تلويثه جريمة يدخل مرتكبها النار بسببها فى العالم الأخر، ومن المشاهد الكبيرة التى تثبت مدى تقديسهم للنيل هى شرط ذكر المتوفى فى صحيفة اعترافاته قبل موته أنه لم يلوث مياه النيل. هكذا كانت مكانة النيل وقدسيته عند أجدادنا قدماء المصريين، لم تقتصر عقوبة أمر تلويث النيل أو الاعتداء عليه على الاعدام فقط، بل وصل الامر إلى الاعتقاد بأن من يفعل ذلك يدخل بسببه النار فى العالم الآخر. وهكذا أيضًا قامت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف الإله حابى فأصبحت قوة عظمى تقود العالم والبشرية نحو كتابة أول صفحات وسطور التاريخ، وأيضًا تعاملت كل القوى الاستعمارية على مصر بكل احترام وتقدير للإله حابى ولم يثبت التاريخ أنه حاولت أى قوة استعمارية الاعتداء عليه أو الإساءة له. وفى كل ذلك ووصولًا إلى وقتنا هذا، وجد الإله حابى نفسه مهانًا ومذلولاً ومكسورًا ومهددًا بالانقراض والموت، كيف يحدث هذا؟ ومن الفاعل؟ إنهم أولاد شعبه المصريون الذين انفصلوا عن عمق تاريخ أجدادهم وهويتهم فأصبحوا بلا سند تاريخى أو علمي، ولذلك سيكون أول ضحاياهم هو الإله حابى رمز الهوية وصانع الحضارة وأبو المصريين. نعم أيها القراء الأعزاء نحن المصريين من نهدم حضارتنا ونمحو تاريخنا ونسىء إلى هويتنا، سأصطحبكم الآن لنتجول معًا على ضفاف الإله حابى العظيم لكى تروا ما نصنعه من تدمير وموت بهذا الصرح العملاق التاريخي. عشرات الآلاف من السدود داخل مجرى النيل صنعتها كثبان الرمل الطينية، مصبات مجارى وترع الصرف الصحى التى تحمل مخلفات المصانع والمستشفيات والحيوانات النافقة لتصب فى بطن الإله حابي، ردم بلطجية الفساد من أصحاب النفوذ المالى والقبلى والقضائى والأمنى ضفاف النيل وتسطيحه بحجارة والاستيلاء على مئات الآلاف من الأفدنة والأراضى الزراعية وبناء القصور والمنتجعات، كل ذلك نهارًا جهارًا تحت أعين أنظمة الحكم، وبمباركة منها، ووصل فجور الفساد إلى تقنين وشرعنة ذلك عن طريق شرائها من الدولة بمئات الجنيهات على عشرات السنوات. وفى كل هذا لم تتحرك الدولة المصرية منذ عشرات السنوات، لوقف هذا الاعتداء الممنهج، الفاجر السافر على حياة المصريين الذى يتمثل فى الاعتداء على شريان الحياة وكل خيراته من أسماك وزراعة فكان الثمن باهظًا متمثلاً فى انتشار الأمراض بين عدد كبير من الشعب وعلى رأسهم مرض c الكبدى الذى أنهك قوى المصريين وقضى على حياة عشرات الملايين منهم والذى تكلف علاجه مليارات الجنيهات فى الآونة الأخيرة، وأيضًا انقراض الثروة الحيوانية، واندثار الزراعة وهروب الفلاح وتعطيب كل المنتجات الزراعية بأنواع كثيرة من الأمراض. وكالعادة فى كل كتاباتى ومقالاتى عندما أسلط الضوء على مشكلة من مشكلات الوطن، أحاول جاهدًا أن أرفق معها بعض الاقتراحات من الحلول والمعالجات والتى تتلخص فى النقاط التالية: أولاً: إصدار تشريع صارم، ويفضل أن يكون بقانون عسكرى يجرم الاعتداء على مجرى النيل وضفافه بكل الأشكال. ثانيًا. إصدار قانون باسترجاع كل أراضى طرح النيل إلى الدولة وإلغاء كل الإجراءات البليدة التى قننت بيع تلك الأراضى بعدة جنيهات للفدان الواحد. ثالثًا: تفنيد تلك الأراضى بعد استلامها من الدولة، ومعاقبة من قام بالاستيلاء والردم والتسطيح الحجرى لجوانب النيل بالسجن المؤبد والغرامة المالية. رابعًا: إقامة مصانع سماد عضوى على ضفاف النيل، على أن تتولى الدولة تطهير النيل من كثبان الطمى النيلية وإدخالها ضمن منتجات تلك المصانع مع أسمدة عضوية أخرى، وتعبئتها فى عبوات، على أن توزع فى الجمعيات الزراعية للمزارعين بأسعار رمزية، حيث ستكون الفائدة عظيمة من ذلك المشروع أولها تطهير المجري، وثانيها هذا السماد سيعطى حياة طبيعية للأرض بعيدًا عن أمراض السماد الكيماوى والمبيدات التى جعلت كل منتجاتنا الزراعية مرفوضة من معظم دول العالم، بجانب أنها ستساعد الفلاح والمزارع على التخلص من أعباء ألأسعار الجنونية للسماد الكيماوي. خامسًا: مجرى ترع الصرف الصحى التى تحمل مخلفات المصانع والمستشفيات ومياه الصرف الصحى والحيوانات النافقة التى تصب فى النيل، يتم تحويلها: إلى الصحراء الغربية لمصر وزرع غابات الأشجار الخشبية التى نستوردها بمليارات الدولارات سنويًا، وبهذا المشروع نكون قد حافظنا على نقاء وطهارة مجرى النيل والثروة السمكية التى انقرضت ومعها القضاء على مصدر الأمراض التى ضربت حياة المصريين. سادسًا: كل ما ذكرته مشروع قومى لا يحتاج إلى رأسمال ضخم ولا إلى ديون خارجية، ومردوده سيكون عظيمًا على حياة المصريين والزراعة والثروة السمكية والحيوانية وأيضًا صناعة الأخشاب. وأخيرًا أقول: لابد أن نواجه ما يتعرض له النيل من انتهاكات داخل مصر حثى نستطيع أن ندافع عنه خارجها.