حين مات الزعيم محمد فريد غريبًا عن وطنه نهاية عشرينات القرن الماضي، لم يجد الشاعر حافظ إبراهيم سوى نهر النيل ليبثّه موجدته في وفاة “,”غصن مصر وفتاها والسند“,”. أما اليوم، فالنيل نفسه لم يعد يجد من يرثيه، مع تآزر قوى الداخل والخارج المستأثرة في تلويث مياهه، والتعدي على مساحات من ضفافه وجزره. والأمر في هذا التلوث يتعلق بتحويل معظم مخلفات الصرف الزراعي والصناعي والصحي إليه، وإلقائها في مياهه، وكلها بمثابة بيئة صالحة لتسمم أسماكه، ونمو الميكروبات المسببة لأمراض الالتهاب الكبدي الوبائي والفشل الكلوي والتليف الرئوي والعجز الجنسي. وجنب التلوث، يتم، وعلى نحو منظم، قضم أجزاء من النهر، وبخاصة في الجزر المنتشرة بمجراه وحول بحيرة ناصر، وتسهيل الاستيلاء عليها أو بيعها، عن طريق سرقة “,”الحِجج“,” الشرعية الخاصة بهذه الأراضي، ومحو بياناتها، لحرمان أصحابها من ملكيتها. واتساقًا مع سياسة الاحتكار في تصدير الصناعات القذرة إلى دول الجنوب، أقيم عند مصب النهر في رأس البر مصنع “,”أجريوم للأسمدة“,”، فيما تم لهذا الغرض احتلال ألف فدان، واغتيال مليوني نخله لتسوية الأرض، وسحب مياه من سد دمياط، واستخدام الغاز الطبيعي بثمن مدعوم؛ وهو ما نتج عنه تلويث المياه، وتسمم الثروة السمكية، واختفاء الطيور المهاجرة، وتدمير صناعة السياحة في هذه المنطقة. وفي منطقة حوض النيل، واعتبارًا من أن الأمن القومي المصري يتصل بثماني دول إفريقية أخرى في هذا الحوض، وأن مصر -بموقعها في نهاية مجراه- هي أول من سيعاني تناقص نصيبها من مياهه، تتواصل إقامة مشروعات مائية في إثيوبيا وأوغندا، وهي أمور لا تبتعد عن محاولة إسرائيل اكتساب مواقع مؤثرة في هذه المنطقة. وتتزايد محاولات إهدار أمن مصر المائي، مع تصاعد الأصوات حول خصخصة المياه وتسعيرها، واعتبارها سلعة اقتصادية تباع وتشترى، يمكن مقايضتها وإقامة أسواق وبنوك وبورصات لها. ولعل أوضح صور هذه الضغوط ما تم في (المؤتمر الدولي للري والصرف) عام 1998، حين طرح البنك الدولي مطالبه بتعديل توزيع المياه بين الدول، وإدارتها من خلال مؤسسات غير حكومية، وتسعير مياه الري وبيعها للفلاحين. عبر هذه المحاولات، وفي إهابها، غاصت معالم نهر النيل، وتم انتزاع التاريخ من جغرافيته، والذكريات الموروثة من جسده، ليستحيل طللاً باليًا يشق طريقه بالكاد في زحمة الالتواءات والبنايات والنفايات، بعد أن تهاطلت عليه جحافل المستأثرين، فعبثوا بمياهه، ومسخوا ضفافه. وتهل على الخاطر تنويعة من عادات وتقاليد ومعارف، صاغتها الجماعة المصرية في حب النهر، وهي تنويعه عتّقتها القرون، فتناسجت وأقامت حضورها، لتستعيد من خلالها قولاً للمصرى القديم، كما ورد في إحدى البرديات، بأنه لم يقتل، ولم يسرق، ولم يقطع شجرة، ولم يلوث النيل، مرورًا بإلقاء أم موسى لوليدها في أمواجه حفاظًا عليه، وقسم المصريين به في قولهم “,”وحياة الميّه الطاهرة“,”، واقترانه لديهم بالفتوّة حين صوّروا الولد العفيّ على أن “,” قوّته نيل“,”، واتخذوا من زهرة اللوتس التي تعيش في مائه رمزًا لفكرة البعث، وابتدعوا عروس البحر ووشم السمكة والجعران والنداهة وجنّية الماء وعروس القمح، لتكتمل لهم صورة الفيضان حين يتخلل شقوق الأرض “,”الشراقي“,”، واحتفلوا بمناسبة “,”ليلة النقطة“,” منذ تنزلت فيه دمعة إيزيس حزنًا على حبيبها أوزيريس، وإقامتهم للولي أبي الحجاج الأقصري مسجدًا في معبد الإله آمون، كامتداد لخروج هذا الإله في سفينته المقدسة، وإلقاء الصبايا بخصلة من شعر رؤوسهن فيه، ليقبل مع أمواجه فيطول ويغزر. وعلى المستوى اليومي، جعل المصريون من النيل مسرحًا لأعيادهم، يمتزجون به على ظهر كل شراع تتهادى على موجه، وخلال مسامراتهم في العصاري على ضفافه، واستعرضت النسوة مفاتنهن أثناء جلبهن لمياهه، وتوارى العشاق في إهابه، وتطهرت المرأة في مياهه، وعمّد أهل النوبة مواليدهم فيه، حين يحملون خلاصهم في زفة على إيقاع رقصة الأراجيد، مصحوبًا بطبق من العصيدة، مع شمعة وحبات من غّلة وقطعة من ملابس الأم حين ولادتها، ليتوجهوا بها إلى ضفة النهر، ويمسحوا مواليدهم بمياهه المقدسة، ويدعون لهم. ذلك أن النيل لم يكن، لدى المصريين، مجرد مجرى مائي عابر في طريقه إلى مصّبه، وإنما هو “,”حابي“,” إله الخير، و“,”مسافر زاده الخيال“,” بديمومته وتجدده. ينداح شجن الاستغراق في هذه التنويعة، وأرق ذاكرتها، حين يُستعاد ما أضحى عليه المشهد المصري مؤخرًا من تلوث: ضرب وقتل وسحل من بقي من شباب ثورة يناير، التطاول على القضاء، الكرّ والفرّ مع القوات المسلحة، اتهامات لجهاز المخابرات بتأسيس ورعاية ميليشيات للبلطجة، مكائد تستهدف مشيخة الأزهر، مشاهد عنف داخل الحرم الجامعي، وكلها وغيرها، مضافًا إليها تلوث النهر، تشير، كما حدثنا الشاعر حافظ إبراهيم، أن الأسى ما زال يجلّ.. أيها النيل.