السبت الموافق 21/9/2019 ذكرى الأربعين على انتقال أمى إلى الأمجاد السمائية، عمق حزنى على رحيلها استوقف الكثيرين، وجعلهم فى حالة اندهاش وسؤال متكرر، كيف يكون جمال رشدى الكاتب والمثقف والمسئول القوى بهذا الانكسار والضعف، وكفى أن أقول موقف واحد حدث قبل رحيلها بأيام قليلة، حيث كنت جالسًا أتسامر بالروح معها قالت لى «يا ابنى أنا مش خايفه من الموت أنا كل خوفى عليك أنت من الصدمة والحزن» على الجميع أن يقف أمام تلك العبارة ليستكشف ما بداخلها من تجسيد حى لمعنى المحبة. حزنى لم يكن على فراق أمى المولود منها بالجسد ورباط الحبل السرى كما يتصور البعض، لكن حزنى الذى ربما يستمر طويلًا كان على صفات وسمات قديسة حقيقية كنت اسكن بداخلها وتجسدت فيها أية الإنجيل التى تقول «ليس حب أعظم من هذا إن يبذل احد نفسه من اجل أحبائه» نعم لقد بذلت أمى نفسها من اجلنا حتى الموت، كانت مائدة مستمرة على مدار ال 24 ساعة، عليها كل أنواع الطعام الروحى والجسدى فهذا طبق الحب الخالص من كل شوائب المصلحة ،وبجانبه طبق الحكمة والكلمة الممزوجة بالذكاء والفطنة والوعي، ومعهم طبق السلام والهدوء، وفى وسطهم سلة خبز الحياة وكلمة الله التى لا تفارقها، وعلى أطراف المائدة وفى وسطها صورة واسم أمى الذى يعطى نكهة لكل تلك المأكولات الروحية. كانت سيدة عظيمة للغاية وستظل هكذا فى حياتنا إلى أن نلقاها فى دار بيت الراحة الأبدي، كانت مثل أجدادها الفراعنة فى حكمتها وقوتها وسمو شخصها، لم تكدر أو تحزن احدًا، كانت تنادى بالعمل والعلم، كانت تهتم بالصغير والكبير، لها قدرة فائقة على استقراء الأشخاص والاحداث، كل من تعامل معها حزن عليها لأنه نال منها إحسانًا ما ماديًا أو روحيًا. صلواتها وطلباتها وكلامها معى دائما كانت تقول يارب لا تجعلنى حملاً ثقيلاً على احد، اجعلنى أعطى ولا اخذ، لا تجعلنى أمد يدى أو احتاج لأحد، يارب خذنى وانا واقفة على رجلى وفى كامل صحتي، تلك الكلمات والصلوات تحققت لها بالفعل ظلت تعطينا جميعًا حتى ساعة فراقها، وظلت بصحة جيدة حتى رحلت وهى جالسة منتظرة كوب الشاى بعد فطارها. عند الجلوس معها كنت انصهر بداخل زفير واستنشاق أنفاسها، وأحس نفسى بداخل دمها وروحها وأرى كم الحب الذى بداخلها من جانبي، كنت انظر فى عينيها قبل رحيلها أجد بريق الرحيل والوداع، ومع كلماتها لى الدائمة بأن ساعة رحيلها قد جاءت ولابد أن أتشدد واتقوى وأحافظ على رباط الحب مع أخواتى وأهلي، كنت اهرب من ذلك البريق ولا استجيب له لأنى كنت لا أتخيل حياتى بدونها. رحلت وإلى الآن لا أعلم إنها بالفعل قد رحلت أم ذلك كابوس أو حلم طويل وسأستفيق منه، ومنذ أيام رحيلها وأنا فى دائرة الهذيان الروحي، ارفض فكرة رحيلها تمامًا ولا أتصور الحياة بدونها، وفى كل ذلك أحس بطيفها وبوجودها الحقيقى حولى فلم تفارقنى إطلاقًا، أراها تنظر لى بابتسامتها المعهودة وكأنها تواسينى وتعزينى وتخفف من ألمي. رحيلها صنع أشياء كثيرة بداخلي، لقد كسر الإنسان العتيق، وأقام إنسانًا آخر متحررًا من قيود العالم وشهواته وله شهوة الانطلاق إلى مكان أمي، المكان الذى هرب منه الحزن والتنهد، رحيلها جعل كل الأشياء ضئيلة وصغيرة أمام حجم القبر، رحيلها جعلنى انظر إلى فوق حيث هى موجودة واترك الأرض وما بها، رحيلها جعلنى اطلب من كل ما حولى حياة الاستعداد لذلك اليوم الرهيب، رحيلها جعلنى أحاول أن أكون كما كانت، الخدمة والمحبة الباذلة للقاصى والدانى. رحلت أمى أيها السادة، ونصيحتى من قلب ينزف حزنًا، من له ام على قيد الحياة، يترك كل شىء ويجلس تحت أقدامها، يحتضنها، يخدمها، يجعلها ايقونة وتاج شرف له، يحوز على رضاها، ودعواتها ومحبتها وبركتها حتى يكون له خزين من البركة فى حياته عند رحيلها. وأخيرا لن أقول وداعًا أمى بل أقول سأجعلك سنكسار مقدس لحياتى أطلبك فى صلواتى وأجعلك قصة وحكاية لأولادى وأحفادى وأتغنى بسيرتك حيث وطأت قدماى أى مكان وفى أى مجلس. إلى أن القاك أيتها العظيمة فى النساء.