لا أعرف إن كنت أيها القارئ العزيز تؤمن بالأشباح، ولا أريد أن أدخل معك في محاولاتبائسة لإقناعك بوجودها، لأنني لم أر في حياتي شبحا أنا الآخر، ولا أعتقد أن شبحا سوفيتنازل يوما فيقرر لقائي عند أي مفترق طرق. لكنني والحق يقال، كنت أستشعر وجود تلكالكائنات كلما سرت وحدي ليلا فوق رمال سيناء. كنت أشعر أن أرواحا معذبة تسكن تلكالرمال، فتتلظي بالرمضاء نهارا، وترتعد فرائصها بقر الليل، فتخرج لتأنس بالمسافرينوتذهب وحشتهم. كنت ألتفت كل عشر خطوات لأتيقن أن رأسا لا تختبئ خلف أي تل، وأنالأصوات التي تجلجل من حولي مجرد هلوسات مردها الخوف لا أكثر. وسرعان ما كنتأنسى خواطري المخجلة، وأتكلف إخفاءها كلما تحدث الرفاق عن مشاعر مماثلة. لم ارد هنا أن أقص عليك يا صديقي خواطري المزعجة التي لا تقدم ولا تؤخر في مسار أيحدث، ولا تبيض أو تفقس في أي سلة، كما لم أرد أن أضيع وقتك الثمين في مناقشة قد تراهاعابثة. لكن الشيء بالشيء يذكر، وما فرط عنقود الذكريات سوى قصة قرأتها لثاني أعظمكاتب في التاريخ بعد شكسبير، وهو الرائع دوما تشارلز ديكنز. ففي قصة قصيرة، صنفهاالنقاد على أنها من العشرة الأفضل على مر العصور، تحول الأشباح حياة عامل تحويلة بسيطإلى جحيم لا يطاق. البطل رجل بسيط، لا يعرف من الحياة غير بيته وصندوق من الحجارة يقضي فيه قسطا لايستهان به من ليله المخيف. وقرب نفق مظلم آناء الليل وأطراف النهار، كان الرجل يجلس فيانتظار إشارة من عامل المحطة المجاورة ليخبره بقدوم قطار ومغادرة آخر. وبدوره كانصاحبنا يرسل برقيات مشابهة لعامل المحطة التالية. لكن الوقت كان يمر ببطء وكآبة، لا سيماحين تتباعد صفارات القطارات وهديرها. لم يتأخر صاحبنا يوما عن عمله، ولم تأخذه أبدا سنةمن نوم لأنه كان يعلم جيدا أن إغفاءة واحدة تكلف مئات الجثث. وذات ليلة غاب عنها القمر، رأى صاحبنا شبحا يخرج من فوهة النفق ويلوح بيده اليسرى،بينما يضع يمناه فوق عينيه. ينزل صاحبنا مندهشا، ويتوجه ناحية الظل، لكنه عندما يقتربمن النفق، يتلاشى الشبح. فيسير بين القضيبين الباردين بخطوات راعشة بحثا عن المستغيث،فلا يرى أحدا. ويعود الرجل إلى صومعته العاليه ليحرك عصا الحديد فيمر القطار مسرعاليصطدم بقطار آخر ضل قضيبيه في عتمة الليل البهيم مخلفا كومة من الجثث وعشراتالجرحى. وبعدها بأيام يظهر الشبح واضعا كفيه أمام وجهه في مظهر المنتحب، فيتبعه عامل التحويلةحتى يتلاشى مرة أخرى عند النفق، فيقع في روع صاحبنا إحساس مبهم بأن شيئا مريعاسيحدث ذلك المساء. وبالفعل، ينزل الرجل من قفصه مسرعا ليتفقد ما خلفه قطار الليل،وليلملم ما تناثر من جثة فتاة كان وجهها كالقمر. وهكذا، يربط صاحبنا بين ظهور الشبحوالموت. ويدرك أن الظل نذير بأن الموت يتربص بقمرته الداكنة. يجلس الرجل ليقص على صديق له تلك الرؤى المفزعة، وكيف أنه طارد الظل حتى تيقن أنهليس لرجل من لحم وعظام. فيسخر صديقه منه، وينصحه بالذهاب إلى طبيب نفسي ليعالجخياله المتوعك. لكنه في تلك الأثناء يسمع صوت الجرس الذي رافق ظهور الشبح في المرتينالأوليين، فيصخي سمعه، ويطلب من صديقه الإنصات. لكنه الصديق الذي لم يسمع صوتالجرس يعجز أيضا عن رؤية الشبح الذي يواصل التقدم نحو مقصورة الرعب ملوحا بيديه. لماذا ترسل لنا الأقدار بالنذر تلو النذر إذا كنا عاجزين عن إيقاف عجلة القدر أو إدارتها إلىالخلف، وماذا يستطيع عامل بائس لا يجيد من الحياة إلا تحريك الأذرع الحديدية يمينا ويسارافي مواجهة قطارات لا تكف عن الصهيل وإراقة الدماء؟ ولماذا اختار النذير بائسا كهذا ليعلمهبقرب وقوع الكارثة دون أن يمنحه القدرة على تحويل مسار القطارات أو إيقاف دورانها نحوالهاوية؟ أسئلة دارت في خلد المسكين التعس وهو يتوقع طوال الليل كارثة جديدة. في الصباح يأتي الصديق ليثبت لصديقه أن ما رآه مجرد خيال، وأن الأشباح وهم غزله ليلالوحدة والخوف. لكنه قبل أن يقترب ن التحويلة، قرر أن يلقي بنفسه نظرة على النفق.وهناك، رأى صاحبنا ظلا طويلا يتمدد بطول النفق، فلما دنا، رأي أن الظل لم يكن لشبح، وإنما لضابط منهمك في لملمة قطع متناثرة من لحم صديقه عامل التحويلة. هل كان ديكنز يحاول إقناعنا بوجود الأشباح في قصته الرائعة؟ في رأيي أن رأسا بحجم تلكالرأس لم تكن لتخرج غثا بهذه الضحاه. لعل الرجل كان يشعر بالعجز الذي نشعر به الآن،وبالألم الذي انتاب عامل التحويلة وهو يرى القطار ينحرف عن مساره، ويدرك في الوقت ذاته أنه عاجز عن فعل أي شيء يوقف دائرة الجحيم. ربما كان ديكنز يجتر حادثة أليمة مرت به شخصيا حينما اصطدم قطار كان يقله داخل نفقبقطار لم يخرج من النفق عام 1961، لا سيما وأن تلك الحادثة قد سبقت صدور تلك القصةبخمس سنوات. لكن الأمر في رأيي يتجاوز الحادثة والزمان، ويسمو فوق الأشباح والمكان. لعلها قصة تجسد حجم المعاناة التي يمر بها المفكرون الذين يقفون على جانبي قطار الأحداث،ويرون مآلات الهمجية البشرية، ويلوحون بأيديهم في عجز مؤسف، لأنهم يدركون أنالسائقين المتهورين لا يرون ما يرونه، ولا يسمعون ما يسمعونه. مؤسف أن يضطر المبصرالعاجز إلى إلقاء نفسه تحت عجلات القطار في نهاية المأساة لأن قدره أن يرى النذر ويتوقعالمأساة، ورغم ذلك يبقى عاجزا عن فعل أي شيء.