كشفت تداعيات القرار الأمريكى الأخير حول القدس، عن أمرين فى غاية الخطورة.. فقد راح البعض يطالب بدعم نضال وصمود الشعب الفلسطينى، بالسفر إلى الأراضى المحتلة!!.. كما راح آخرون يرددون: «لقد أضاع الفلسطينيون الفرصة التى منحها لهم الرئيس السادات»، عندما دعاهم إلى المفاوضات، التى انتهت ب«اتفاقية السلام!». بداية.. لا أدرى كيف يعتقد البعض أن دعم القضية الفلسطينية، أو أن تحدى قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، يكون ب«التطبيع» مع الكيان الصهيونى.. ليس هذا فقط، بل راح هؤلاء جهلا أو زورًا ينتقدون الموقف الوطنى والشعبى الرافض للتطبيع، الذى تبنته النقابات المهنية والهيئات الثقافية على اختلافها دون استثناء واحد. الأكثر من ذلك أنهم اعتبروا موقف الحركة الوطنية الرافض للتطبيع مجرد شعارات فارغة ومزايدات ضيعت القضية!، دون أن يشرحوا لنا كيفية «النضال بالتطبيع!!»، وكيف تسهم زياراتهم للقدس فى وقف عمليات التهويد، وهدم المنازل، وسرقة التراث!!. هل سيخجل الصهاينة مثلا من السادة المطبعين، لأنهم يمولون خزانة إسرائيل بمئات الملايين من الدولارات نتيجة زياراتهم المتكررة، ويتوقفون عن جرائمهم؟!. هل يتصور السادة الداعون لمناصرة فلسطين ب«التطبيع مع إسرائيل!!»، أن سلطات الاحتلال الصهيونى ستمنح مليون عربى فى وقت واحد، تأشيرة الدخول وزيارة القدس والصلاة فى المسجد الأقصى، فى الوقت الذى تمنع فيه الفلسطينيين دون ال50 عامًا من أداء صلاة الجمعة، ناهيك عن ملايين المهجرين الذين لا يستطيعون العودة لوطنهم؟!. ما هو المبرر إذن؟ وكيف يكون التطبيع نضالا؟!.. نريد إجابة واضحة بعيدًا عن العبارات المضللة من عينة: «زيارة فلسطين تسهم فى كسر الحصار».. «زوروا فلسطين للتصدى لعمليات التهويد»!!. التطبيع يا سادة، لمن اختلط عليه الأمر بفعل عمليات التضليل السياسى مطلب صهيونى بالأساس، يطلبونه سرًا وعلانية منذ مبادرة «روجرز».. وبعدها «كامب ديفيد».. وفى كافة المفاوضات التالية لذلك، من «مؤتمر مدريد» إلى «اتفاقية أوسلو»، ولا يكفيهم الاعتراف الرسمى.. بل يطلبون تطبيعًا شعبيًا، يسمح لهم بالاندماج فى المنطقة. التطبيع مطلب صهيونى ملح يطرحونه فى مفاوضاتهم ومساوماتهم.. ويتصدر كل أجنداتهم لحل قضية الصراع العربى الصهيونى.. فهم يشترطون التطبيع فى مقابل منح الفلسطينيين بعض الحقوق التاريخية فى الضفة وغزة.. فكيف نمنحهم ما يريدون، دون قيد أو شرط؟!.. أو بالأحرى، كيف تكون مواجهة إسرائيل بتنفيذ مطالبها ومخططاتها وتحقيق أهدافها؟!!. هم يسعون دومًا لتمرير الزيارات التطبيعية وترويض الناس على قبولها، باستدراج رموز الوطن لارتكاب هذا الفعل لجرِّ الشعوب العربية نحو قبول الاحتلال والاعتراف بوجوده. ولنتخيل معًا أن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وقداسة البابا تواضروس الثانى، وعددًا من رموزنا الوطنية والسياسية والثقافية، استجابوا لهذه الدعوات وذهبوا ل«كسر الحصار المفروض على الفلسطينيين!»، تُرى من المستفيد؟!.. هل ستوقف هذه الزيارات الاعتداءات الصهيونية الوحشية، أم ستصبح صورهم وهم يتجولون فى المدينة القديمة ويصلُّون بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، حديث العالم كله، تتناولها وكالات الأنباء الغربية فى معرض حديثها عن التسامح الإسرائيلى والتعايش السلمى وغيرها؟!!. هذه الزيارات التى يدعون لها لو تمت ستغسل سمعة المجرمين قتلة الأطفال والنساء والشيوخ.. أصحاب السجل الإجرامى الحافل بالمجازر والانتهاكات.. سيمنحونهم التأشيرات ويستقبلونهم بالورود فى الصباح، ويهدمون المسجد الأقصى فى المساء. يا سادة.. مقاطعة الكيان الصهيونى هي سلاحنا الوحيد، بعد أن تخاذلت الأنظمة.. فكيف يكون التنازل عن السلاح نوعًا من النضال؟!. فلسطين لا تحتاج من العرب زيارة القدس، تحتاج مواقف جادة ومحترمة، وإذا أردتم الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى ومناصرة قضيته، قاطعوا الكيان الصهيونى والولايات المتحدةالأمريكية، الشريك الأساسى للصهاينة، قاطعوا بقدر ما تستطيعون بضائعهم ومنتجاتهم. اشرحوا لأطفالكم طبيعة هذا الكيان الاستيطانى التوسعى الذى يطمع فى تكوين دولته من النيل للفرات، ذكروهم بضحايا الصراع المستمر منذ أكثر من مئة عام.. قولوا لهم إن ما يسمى بالسلام مع إسرائيل مجرد هدنة قصيرة مهما طالت، وإن صراعنا مع العدو الصهيوني صراع وجود وليس صراع حدود.. وإن الأمر ليس فقط مجزرة هنا أو مذبحة هناك.. لكن الأرض واحدة وطالب الأرض اثنان.. وإن المعركة مستمرة حتى ولو اتخذت أشكالا أخرى غير عسكرية. حافظوا على رصيد العداء كامنًا فى الصدور، وعلموهم أن «ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، وأن «المقاومة هى الخيار الاستراتيجى، وبدونها، لن يكون هناك تحرير للأرض. الفرصة التاريخية! نوع آخر من التضليل السياسى، يمارسه البعض ووقع فيه الكثيرون، بزعمهم أن الفلسطينيين أضاعوا «الفرصة التاريخية!!» للحصول على حقوقهم، عندما رفضوا الذهاب للمفاوضات مع السادات!. للأسف.. ورغم ما تكشَّف من حقائق بمرور الوقت عن مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل، ما زال البعض يعتقد أن الكيان الصهيونى، كان جادًا فى السلام، وسيتنازل للعرب طواعية، عن الأراضى التى احتلها بعد 67، ولم يدركوا بعد أن الهدف الوحيد للصهاينة والأمريكان من المفاوضات، كان تحييد مصر وخروجها من معادلة الصراع العربى الصهيونى، لبعض الوقت، وهو ما كان بمثابة وضع حجر الأساس للأوضاع التى نعيشها الآن. ولا يزال الكثيرون يخلطون بين خطاب السادات فى الكنيست الذى بدا خلاله المدافع عن القضايا العربية المتمسك بالحقوق التاريخية، وبين ما جرى بعد ذلك فى المفاوضات وما تم التوقيع عليه فى النهاية.. خاصة وأن الإعلام الحكومى فى فترات طويلة ربط عن عمد بين اتفاقية (السلام) وخطاب الكنيست بشكل جعل من الاثنين شيئًا واحدًا فى أذهان الناس. لقد كانت تنازلات الرئيس الراحل المتتالية بعد توقف الحرب مفاجأة كبيرة للصهاينة والأمريكان قبل الفلسطينيين، بداية من اتفاقيات فك الاشتباك فى 1975 وحتى اتفاقية السلام فى 1979.. بل إن السادات بعد تعثر المفاوضات فى مراحلها الأخيرة وإعلانه لمرافقيه أنه ينوى الانسحاب من كامب ديفيد، تبنى تمامًا الحل الأمريكى الذى هو بالأساس الحل الصهيونى، حتى أنه خرج للوفد المصرى بعد لقائه بكارتر قائلا: «سأوقّع على أى شىء يقترحه الرئيس كارتر دون أن أقرأه»!!، الأمر الذى دفع محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية للاستقالة. انسياق السادات وراء مشروع الحل الأمريكى فى كامب ديفيد انسحب بعد ذلك على كل شىء، بداية من تخلى مصر عن أمتها العربية بالخروج من الدائرة الإفريقية، وفتح أبواب الاقتصاد المصرى أمام رؤوس الأموال والسلع الأمريكية والاستجابة لشروط البنك الدولى والقضاء على الصناعة الوطنية.. حتى وصلنا للرضوخ التام للإرادة الأمريكية. ولا أعتقد أن ما وصلت إليه أحوالنا فى مصر وما أصبحت عليه الأمة العربية من المحيط للخليج يمكن تحليله أو فهمه بمعزل عن زيارة السادات المشئومة للقدس.