"أيها الواقفون على حافة المذبحة.. أشهروا الأسلحة.. سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة.. وانساب الدم فوق الوشاح.. المنازل أضرحة.. والمدى أضرحة.. فارفعوا الأسلحة.. أنا ندم الغد والبارحة.. رايتى عظمتان وجمجمة.. وشعارى الصباح". هكذا يُلهب أمير شعراء الرفض «أمل دنقل»، الوجدانات.. ويستفز العزائم.. ويستنفر طاقات المقاومة. والاستبسال فى سبيل صباح استقلال القدس وكل المقدسات العربية المستباحة.. ولن يتم ذلك إلا بإطلاق طاقات الغضب المكبوت فى وجه الكيان الصهيونى المحتل المغتصب لمدينة السلام (القدس).. وفى وجه الكيانات الاستعمارية الداعمة له، الضامنة لأسباب تفوقه وبطشه بالشعب الفلسطينى الأعزل إلا من شرف الصمود والتحدى والصبر المدجج بالإيمان بالله وعدالة قضيته، وجوهر نزوعه الروحى السامى، وعنوان إنسانيته، وسبب بقائه.. صارت القضية الفلسطينية، ومدينة القدس فى القلب منها، على مدى قرن من الزمان، علامة على صراع عربى - صهيونى دامٍ.. ورمزًا للنزوع نحو التحرر والاستقلال والسيادة وعدم الانسحاق أمام العدو الصهيونى مهما بلغ من قوة جشعه وتوحشه وانعدام أخلاقه وضميره وإنسانيته.. ومهما بلغ الغرب الداعم له من ازدواجية فى المعايير، ونفاق فاضح، ونهمٍ وحشى للسيطرة والاستحواذ على مقدرات الشعوب واغتصاب أراضيها ومقدساتها. كما أصبحت القضية الفلسطينية هى اختبار العرب والمسلمين فى العصر الحديث، ومفترق طرق اختيارهم فإمَّا أن يجتازوه متوحدين متخلين عن انقساماتهم وتشرذمهم وضعفهم، وإما أن يتخلوا عن إنسانيتهم وحقهم فى الوجود الحر الكريم. قرن من الزمان بين وعد «بلفور» فى 2 نوفمبر 1917، ووعد «ترامب» فى 6 ديسمبر 2017 لم يكف الصهاينة خلاله عن محاولاتهم المحمومة لتهويد القدس وطمس هويتها الحضارية العربية والإسلامية، واستئصال العنصر العربى الأصيل صاحب الأرض فيها، مستخفين بحقوق الإنسان، وبمناشدات مؤسسات المجتمع الدولى العادلة شكلًا، المنحازة الداعمة مضمونًا ومصالح مع دولة إسرائيل.. فعقب نكسة 5 يونية بأيام أصدر الكنيست الإسرائيلى قرارًا فى 27/6/1967 قضى فيه بتهويد القدس وضمها إلى الكيان الصهيونى، وبعد عامين فى 26 مارس 1969 أعلن أن القدس عاصمة موحدة للكيان، ثم أصدر قرارًا فى أواخر عام 1980 يجعل القدس مقرًا لرئيس الدولة الصهيونية.. ولم يكف الإسرائيليون عن تلك المحاولات لتهويد القدس حتى اليوم وهو ما جاء قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لتدعيمه وشرعنته، ومنحه الغطاء السياسى الدولى، واتخاذ الخطوات العملية لترسيخه بالإعلان عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، موعزًا للدول التى تدور فى الفلك الأمريكى بأن تحذو حذوه وتنقل سفاراتها إلى القدس، ومنتشيًا بغطرسة القوة، ولىّ الأذرع العربية الواهنة، وإقرار سياسة الأمر الواقع المفروض المرفوض، أى الذى يحاول فرضه، وترفضه الشعوب العربية والإسلامية الحرة، مدعومة بأحرار العالم المحبين للحق والخير والسلام. فهل ينجح الصهاينة وإن دعمتهم القوى الاستعمارية الكبرى أمريكية وبريطانية، فى فرض هذا الواقع؟ إن حقائق الدين والتاريخ والقانون والاجتماع فى القدس تجيب بالنفى القاطع عن ذلك السؤال المفروض المرفوض. فأولى حقائق التاريخ تقول إن العرب «اليبوسيين» هم البناة الأوائل لمدينة القدس. و«اليبوسيون» هم شعب سامٍ نزح مع الكنعانيين من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام فى خلال الألف الثالث قبل الميلاد واستقر العرب اليبوسيون فى منطقة القدس فقط بينما ذهب الكنعانيون إلى الساحل. وقد بنى «اليبوسيون» بقيادة ملكهم «ملكى صادق» مدينة القدس وأسموها «شاليم» وهو اسم إله السلام عند الكنعانيين، ثم حُرفت لاحقًا إلى «أورشاليم» التى تعنى «مدينة السلام»، وقد كانت تسمى أيضًا «يبوس» نسبة إلى اليبوسيين. وبعد ذلمك استقروا فى هذه المنطقة لمدة طويلة حتى وصول بنى إسرائيل فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد وحينها استولى الإسرائيليون على المدينة بقيادة نبى الله داود وطردوا اليبوسيين وحصنوا المدينة وشيدوا فيها الهيكل المزعوم، وإن كانت التوراة تنفى طرد الإسرائيليين للعرب اليبوسيين، حيث ورد فى سفر «القضاة» فى الإصحاح الأول: «ولم يطرد مَنَسَّى أهل بيت شان وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان يبلعام وقراها، ولا سكان مجدَّو وقراها. فعزم الكنعانيون على السكن فى تلك الأرض». تلك هى الهوية العربية للقدس وجذورها التاريخية الضاربة فى أعماق التاريخ. وأما عن الهوية الإسلامية للقدس، فهى راسخة فى عقيدة المسلمين، وتحوز لديهم مكانة خاصة، فهى بالنسبة لنا أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين اللذين تشد إليهما الرحال كما أشار إلى ذلك سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإليها أسرى بالرسول الكريم، ومنها عُرج به إلى السماء، وفيها صلى بالملائكة. وقد نص القرآن الكريم على أن القدس مباركة، باركها الله -تعالى- وما حولها وذلك فى الآية الأولى من سورة «الإسراء» أو سورة «بنى إسرائيل»، حيث يقول تعالى: «سبحان الذى أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير» (الإسراء: 1). وقد فتح سيدنا عمر بن الخطاب القدس فى السنة السادسة عشرة للهجرة الموافقة لعام 638 من الميلاد، وأعطى لأهلها عهدًا (وقد كان معظمهم، فيما يبدو، من المسيحيين العرب)، وأمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يسكن بالقدس أحد معهم من اليهود، وكان هذا طلب أهل القدس أنفسهم؛ لأنهم كانوا يكرهون اليهود بشدة، حتى أنه نص فى إحدى روايات العهدة العمرية على أنه لو مرّ بالقدس يهودى فلا يبيت بها ليلة واحدة؛ لأن اليهود كانوا يذبحون أسرى النصارى عند الفرس.. وكان هذا غاية التسامح من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذى ضرب مثلًا رفيعًا فى الخلق الإسلامى الذى يرفق بأصحاب الديانات الأخرى، وأهل البلاد المفتوحة فلا بغى ولا عدوان وإنما عدل ورحمة. وقد التزم القائد الإسلامى البطل صلاح الدين الأيوبى بهذا العهد العمرىّ، الذى أصبح نموذجًا يحتذيه المسلمون مع غيرهم من المسيحيين فى الشرق، عندما تعاهد مع الحامية الصليبية فى القدس على تسليم المدينة إليه، وكذلك مع حاميات أخرى فى فلسطين على تسليم بعض المدن. فأين ذلك النسق القيمى السامى مما يفعله الإسرائيليون بأهل القدس هذه الأيام؟! ورغم العديد من القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن ومنظمة اليونيسكو، والتى تقضى بحماية الفلسطينيين عمومًا بوصفهم واقعين فى مناطق حرب، والحفاظ على هوية مدينة القدس؛ فإن إسرائيل لم تأبه لهذه القرارات، وإنما ضربت بها عرض الحائط، وتجاهلت فى غطرسة وغرور كل قرارات الشرعية الدولية.. وكثيرة تلك القرارات التى «تدعو» إسرائيل إلى الالتزام بمضامينها، فمن تلك القرارات على سبيل التمثيل وليس الحصر القرار الشهير رقم (242) الصادر سنة 1967 نتيجة لاحتلال إسرائيل الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وغزة وسيناء؛ حيث ورد فيه ضرورة انسحاب القوات المحتلة من الأراضى التى احتلتها فى حرب 1967. والقرار رقم (271) لسنة 1969، الذى يدين إسرائيل لحرق المسجد الأقصى فى يوم 21 أغسطس 1969 ويدعو فيه إلى إلغاء جميع الإجراءات التى من شأنها تغيير الوضع فى القدس، والقرار رقم (672) بتاريخ 21 أكتوبر 1990 الذى يدين أعمال العنف التى ارتكبتها قوات الأمن الإسرائيلية فى 8 أكتوبر من عام 1990 فى الحرم القدسى الشريف مما أسفر عن مقتل ما يزيد على عشرين فلسطينيًا وإصابة ما يربو على 150 شخصًا بجراح وهم مدنيون ومصلون أبرياء. والقرار رقم (3754) الصادر فى 1 ديسمبر 1999 بإعلان أن قرار إسرائيل بفرض قوانينها على مدينة القدس ملغى وباطل. والقرار رقم (7854) بتاريخ 6 من ديسمبر 1999 الذى يقضى بأن المستوطنات الإسرائيلية فى الأرض الفلسطينيةالمحتلة، بما فيها القدس، وفى الجولان السورى المحتل، غير قانونية. وقرار منظمة اليونيسكو رقم (2830) الصادر بتاريخ 16 من نوفمبر 1999، والذى يقضى بالتذكير بقرارات اليونيسكو بشأن صون التراث الثقافى لمدينة القدسالشرقية. أى يحفظ لها هويتها الثابتة. تلك هى إسرائيل ومن ورائها الإمبريالية الغربية العتيدة؛ حيث لا لغة تعلو على لغة الاستقواء والبلطجة السياسية والقانونية والعسكرية والأيديولوجية، فماذا عنا نحن العرب والمسلمين؟ هل نكتفى بلغة تقديم المبادرات لكى نستجدى سلامًا مغموسًا بالذل والتفريط فى الأرض والعرض والكرامة؟ أم نتبنى خيارات جديدة يفهمها العدو جيدًا ويقدرها ويحسب لها الحسابات.. خيارات الصمود والتصدى والتحدى.. خيارات المقاومة وردّ الحجر من حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر، كما قال الإمام على بن أبى طالب (كرّم الله وجهه).. ورمزية الحجر هنا واضحة الدلالة على الصلابة والوقوف بوجه العدوان ف«ليت الفتى حجر» كما قال الشاعر. إن غضبتنا.. من أجل القدس هى الغضبة الأخيرة.. قبل أن نفقد إنسانيتنا.. ورجولتنا.. وقبل أن يضعنا التاريخ فى المكان الذى نستحق.. فإما الغضب وإما الفناء!!