ستظل ثورة 23 يوليو 1952، أبرز العلامات المضيئة فى تاريخ مصر الحديث؛ خاصة فى أعظم حدثين فى تاريخها وهما : انتكاسها فى 5 يونية 67 وانتصارها فى 6 أكتوبر 73. وقد قام المؤرخون المختصون بالتأريخ العلمى الموضوعى للمسار الخطى الزمنى المتسلسل لأحداثها خير قيام. ولكن ما يعنينا هنا هو التأريخ الأدبى لذروة أحداث ثورة 23 يوليو، وهو انتصار السادس من أكتوبر، وبالتحديد الواقع الاجتماعى الذى أعقب هذا الانتصار العظيم. هذا الواقع الذى صار» الانفتاح» السياسى والاقتصادى علما عليه، بما ساده من سيطرة القيم المادية، وصعود طبقة أثرياء الحرب والسماسرة والوسطاء والتجار والمستوردين دون ضابط؛ حماية للمنتجات الوطنية؛ مما هيّأ تربة خصبة للفساد، وما أفرزه من تفاوت طبقى حاد )أحداث 18، 19 يناير 1977(، وما رافقه من نزوع نحو القمع والبطش الذى بلغ ذروته فى إجراءات سبتمبر الأسود من عام 1981، وما استتبع ذلك من عنف مضاد – خاصة بعد توحش غول الإسلام السياسى – وصل مداه الأخير بمأساة اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات ذاته فى 6 أكتوبر من العام نفسه. رواية «عصر واوا» للروائى فؤاد قنديل، الصادرة عن دار «الهلال» فى مارس 1993، تصور ذلك العصر، عصر «الانفتاح» الساداتى، تجعل منه تيمتها الأساسية والإطار الزمنى لأحداثها. وإذا كان «العنوان» هو الموجه الأول لآليات الاشتغال الدلالى داخل العمل الأدبى بوجه عام؛ فإنه، هنا، يكاد يختزل عالم الرواية بكاملها، ويحدد وجهة نظر الروائى نفسه تجاه ما يسرده على متلقيه من أحداث، ويمثل إحدى أهم تقنياته الروائية. فماذا يعنى لفظ «واوا»؟ ما الذى يثيره فى النفس من أحاسيس؟ إن لفظ «واوا» فى الدلالة العامة والعامية هو لفظ طفولى الاستعمال للتعبير عن الجرح والألم؛ كما أن تكرار «الواو» و«الألف» يوحى بالعبث والسخرية والتهريج. وللفظ «واوا» على المستوى الفصيح معنى وحيد هو «صوت ابن آوى الجائع»، وابن آوى حيوان بين الذئب والثعلب، ويحمل خصائص الحيوانين معًا: الشراسة والخبث. وكل تلك الدلالات تحتملها شخصية البطل الضد «واوا» الذى يجعله فؤاد قنديل عنوانا لروايته وعلما على عصر الانفتاح، وهو شخصية مجرمة، شريرة، فاسدة، تاجر مخدرات ضمن عصابة دولية، وهو مغتصب زوجة «شريف أبو العلا»، مدرس التاريخ، الذى يمثل العصر الناصرى على مستوى الحدث الروائى. ولنتأمل كيفية بناء الرواية لشفرة الأسماء وما توحى به؛ إبرازًا للتقابل الدرامى الحاد: ف«شريف أبو العلا»، وهو اسم مشتق من الشرف والعلا، رمز للعصر الناصرى، وهو مدرس تاريخ، وهى مهنة تورث صاحبها الحكمة والوعى والعراقة واستخلاص الدروس والعبر؛ وذلك فى مقابل «واوا» ممثل زمن «الانفتاح»، وقد مر تحليل دلالات اسمه وإيحاءاته الساخرة. آثر الروائى «فؤاد قنديل» بناء روايته بتقنية سردية مشهورة وهى بدء الأحداث من النهاية أو ما يطلق عليه )Flash back( ثم تتداعى الأحداث بعد ذلك تباعًا من البداية حتى الوصول إلى الحدث المهم، حيث «شريف أبو العلا» بطل الرواية يرقد فى المستشفى إثر اكتشاف اختطاف زوجته «سلوى» والاعتداء عليها جنسيا من قِبل «واوا». وتتوالى الأحداث فى البناء الروائى، ولكل حدث دلالة ومغزى؛ لنجد أنفسنا فى النهاية أمام لوحتين كبيرتين متقابلتين متضادتين: «اللوحة الناصرية» و«اللوحة الساداتية». وأول وصمة إدانة للعصر الساداتى نجدها فى ذلك الحدث الدال، حين يعود «شريف» إلى منزله ويتأمل الأشياء والصور فى منزله بعد الكارثة التى حلّت به، عندما «تحول إلى الجانب الآخر، حيث كانت صورة عبد الناصر الذى أحبه كما لم يحب إنسانا قط.. مستحيل.. لم يجد الصورة.. غير معقول أن تكون قد سرقت..دار حول نفسه.. فتش الحجرات ليطمئن على أن شيئا آخر لم يُسرق.. كل شىء كان فى موضعه.. أعاد التنقيب عن الصورة.. غريبة أن تختفى هذه الصورة التى لا أظن أنها تعنى أحدًا أم أن هناك خطة لنزعه من قلبى... لم يصدق أذنيه ولكنه ساير أحلام يقظته التى تتولى شئونه أغلب أيامه الأخيرة.. أطل تحت السرير.. ألفى الصورة والزعيم فيها يفكر فى الحركة الصعبة التى يستعد لها..» )الرواية: ص 16(. وتتجلى الإدانة فى الحدث الروائى فى التنكر لناصر وإهمال مبادئه، ووضعه فى مكان لا يليق به، وهو ما كانت تتندر به العامة فى السبعينيات عندما كان الرئيس السادات يقول إنه يمشى على خطى عبد الناصر ؛ فكانوا يقولون : نعم ولكن بأستيكة. وكردة فعل مضادة ومدافعة عن الزعيم عبد الناصر وعصره كان «شريف أبو العلا» يصر على التذكير بالمبادئ وأهمية الدفاع عنها، وكأنه يتحصن بالنماذج العليا لحامليها فى وجه الفساد الذى يحيط به؛ فكان يلقن تلاميذه قائلًا: «أخطر شىء يا إخوانى إرضاء شخص أو أشخاص على حساب المبادئ، ولو تأملنا حركة التاريخ سنلاحظ أن الذى يحركها ويحتل أنصع الصفحات فيها هم من دافعوا عن المبادئ؛ لأنها الكرامة، ولو دققنا النظر فى كل الأحداث التى يسجلها التاريخ لن نجده يقيم وزنا إلا لكل حركة كانت تسعى لتحقيق الكرامة، فمثلًا أحمد عرابى.. دوره النضالى محدود ومع ذلك فقولته «لا» الشهيرة فى وجه الخديوى توفيق جعلت التاريخ يحتفى به.. لا بد من «لا» عالية واضحة وغير مخنثة أو تقبل المساومة.. عبد الناصر قال «لا» مدوية للتخلف وللرجعية والاستعمار والفقر.. لا للجهل وللتمزق..». )الرواية من: 89(. أما اللوحة «الانفتاحية» السبعينية المضادة فيصورها «قنديل» عبر ذهن بطله «شريف» وقد «قفزت أفكاره إلى مناطق أخرى كان يسمع عنها مثل السمك الكبير، والقطط السمان، والحوت، والغول. رجال الدولة.. حماة النظام..لم يعد الجيش والمخابرات هم حماة النظام.. الحيتان والغيلان وأمثالهم هم الحماة الحقيقيون..» )الرواية ص: 88(. من أجل ذلك لا يعد خروجًا عن السياق ولا مفارقة لجو الرواية أن نستشهد بتلك العبارة التى وصف فيها الروائى نجيب محفوظ الرئيس السادات فى رواية «يوم قتل الزعيم» بقوله: «ما هو إلا ممثل فاشل... صديقى بيجين.. صديقى كيسنجر. الزى زى هتلر والفعل شارلى شابلن». كل هذا الفساد لم يزد «شريف أبوالعلا» إلا صلابة وعنادًا وتمسكًا بحقه فى عدم سحب البلاغ الذى تقدم به ضد «واوا» مغتصب زوجته عندما اختطف شريف أيضًا وعذب لكى يتنازل عن حقه، لأن «واوا» ما هو إلا قمة جبل جليد الفساد فوراءه حيتان تحميه وعندما اغتصب «واوا» زوجة شريف كان يحمل فى سيارته بضاعة «هيروين» بعشرة ملايين دولار تخص لواء شرطة فاسدًا أذاق شريف أهوالًا من العذاب لكى يحمى رجله وبضاعته ليتنازل عن المحضر قائلًا له: «أنا لست معلم خردة يا صرصار.. ولا صاحب سلخانة.. ولا تاجر فاكهة.. أنا لواء بوليس يا كلب» )الرواية: ص 87(. لقد كان الفساد فى عصر الانفتاح الساداتى – حسب وصف الرواية – أكبر من أن يتصدى له فرد واحد مهما أوتى من قوة أو تسلح بالوعى والمبادئ، فماذا يعنى الانتقام الفردى؟ فقد كان «شريف» «مستعدًا أن يمضى فى أى طريق يمكنه من الانتقام.. لا من الباشا وحده ولا من واوا.. فلا معنى لهذا الانتقام.. المسألة بدت أمامه أكبر وأعمق والساحة التى يلعب فيها الفساد لعبة بانورامية.. طولها طول الزمن.. وعرضها عرضه» )الرواية ص: 144(. ورغم ما عاناه «شريف» من ظلم وعذاب فإنه لا يتخلى عن تفاؤله مستشرفا المستقبل ومحاورا صديقه: «قال عبد الرحمن: البلد تحتاج إلى عمل كثير..لا بد أن تتكاتف كل الجهود وتتحد كل الأيدى. قال شريف: ليست مسألة أيدى وجهود.. لا بد من قيادة واعية.. فكر شامل وإرادة.»... تنفس شريف بعمق وقد أحس بتباشير الأمل.. الأمل الذى تعود أن يتعلق به دائمًا.. وما أحوجه إليه فى هذه الأيام.» )الرواية ص: 105(. وأخيرًا: ما المعنى الكلى ّ الذى تريد رواية «عصر واوا» إيصاله إلينا؟ هل تريد أن تقول: إن عصر عبد الناصر رغم الهزيمة كان أفضل من عصر السادات رغم النصر؟ هذا ما أعتقده.