رواية ناصر عراق «نساء: القاهرة - دبى» رواية أجيال، تدور أحداثها حول ثلاث نساء: انتصار ومارسيل ووداد. ولكن تحتل صدارة المشهد الروائى شخصية انتصار التى تدور الرواية حول عائلتها بالدرجة الأولى، وذلك على نحو تحتل معه عائلة انتصار صدارة السرد، أما غيرها من الشخصيات فتؤدى أدوارا إكمالية، تستكمل بها اللوحة ملامحها وتفاصيلها الدالة، فى فضاء تظل الصدارة فيه لعائلة انتصار التى تتحرك فى تعاقب الزمن السردى الذى يبدأ من حضور والد انتصار: الأستاذ جرجس، وينتهى بالحفيدين: مادلين وفيليب، وما بينهما فى سياق التعاقب الأفقى للزمن الذى يبدأ من 28/10/1973 إلى 25/11/2011. هذا المحور الأفقى لتعاقب الزمن تتعامد عليه أحداث وشخصيات ومتغيرات سياسية واجتماعية، كأنها خلفية الجدارية التى تتصدرها عائلة انتصار، منذ أن مات زوجها العميد صبحى ميخائيل، بطلقة غادرة من دبابة إسرائيلية. وما بين المحورين الأفقى والرأسى للرواية شخصيات متوثبة بالحيوية، ولكن بما يجعل منها- من منظور التجريد النقدى- أشبه بشخصيات مسرحية، تظهر وتختفى مع انتهاء دورها فى امتداد السياق الزمنى العام للأحداث، والتنوع الدال للشخصيات. لكن الزمن الروائى لا يسير فى خط صاعد أو متتابع، وإنما يمضى فى حركة بندولية، أو حركة استرجاع سرعان ما تعود إلى النقطة التى تبدأ منها وتنتهى إليها، هذه النقطة مبسوطة على خمسة أيام فحسب نسمع فيها صوت الحفيدين: مادلين وفيليب، ابتداء من 21/11/2011 الخامسة عصرا، وانتهاء بالساعة الرابعة من عصر 25/11/2011. وخلال هذه الأيام التى دخلت فيها أمهما المستشفى، ننتقل من صوت كل منهما إلى صوت الراوى العليم بكل شىء، كى يملأ فراغات الزمن، ويرد الحاضر على الماضى ليكشف عن جذوره وأسبابه، فننتقل من لحظة البداية التى يموت فيها الجد العميد صبحى ميخائيل، تاركا الجدة انتصار والأم سوزان التى يتركز عليها السرد، بعد التركيز على الجدة والأم بما يكفى لحركة كل منهما التى تكشف عن خلفية تاريخية مغايرة، لكن متكاملة فى الدلالة، فتؤدى الأم انتصار دور الفاعل السردى الذى تتحرك معه مشاهد الزمن من تحالف السادات مع الإسلام السياسى والتحولات الاجتماعية السياسية التى تشهدها الأم (انتصار) والجد جرجس الذى يشهد معها التمييز الدينى ضد المسيحيين، والأثر الذى تركه إسلام النفط على وداد ثالثة الصديقات الثلاث (انتصار، مارسيل، وداد) التى ذهبت مع زوجها محمود فى إعارة إلى السعودية؛ فعادت مرتدية الحجاب، وزوجها يفتتح مكتبات باسم »دار الأرقم بن أبى الأرقم«، فضلا عن التجارة فى كل شىء، وتنفتح شهيته على جمع المال والزوجات، كما لو كانت اللحية ترادف الشره إلى المال والجنس على السواء. ولا نترك هذا الشره المقترن بدوافع مؤدية إلى الاحتقان الطائفى إلا بعد أن نرى ما أحدثه الانفتاح الساداتى من انفلات المعايير، وصعود اللصوص والفاسدين فى الزمن الساداتى الذى قلب القيم المتوارثة رأسا على عقب. ولا نترك عالم الجدة انتصار إلا بعد أن نكمل ملامح عالم السبعينيات، ويكتمل معها حضور الابنة سوزان التى تدخل كلية الفنون الجميلة فى الزمن الساداتى الذى عرف الغضب الشعبى وتحركات المجموعات اليسارية التى انتسبت إليها، بعد أن أدركت أن العدو ليس إسرائيل فحسب، وإنما العدو فى الداخل، ماثل فى تحالف الفساد السياسى والتطرف الدينى الذى راح ضحيته السادات. وكما ينتقد السرد انتهازية المنتسبين إلى الإسلام السياسى، فى سياقات الصراع التى تدور فيها الرواية، يكشف المثالب الأخلاقية لبعض شخصيات اليسار التى ارتبطت بها الابنة سوزان، الأمر الذى دفعها إلى قبول الزواج من فؤاد مسيحة شقيق مارسيل صديقة أمها لعلها تجد الحب المقترن بالأمان الذى لم تجده بين الشباب اليسارى الذى أخذت روابطه فى التفكك. وتبدأ مأساة سوزان التى ترحل مع زوجها إلى دبى، بحثا عن المال، بعد أن ضاقت الأحوال الاقتصادية فى موازاة تصاعد التمييز ضد المسيحيين. وفى دبى، تجد عملا مرموقا، وتنجب كرها ابنها فيليب، إلى جانب الابنة مادلين التى حملتها رضيعة إلى دبى، هكذا، ينشأ الجيل الثالث مغتربا، يعيش فى فضاءات دبى التى تختلف عن فضاءات القاهرة، ولكن بما لا يبعد الأم عن انتماءاتها اليسارية القديمة، وتعاود هذه الانتماءات فى الظهور مع الطبيب الثورى الذى انجذبت إليه، ويحرص كلاهما على المشاركة فى ثورة 25 يناير، وتحبطهما أخطاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارة البلاد، وينتهى الأمر بإصابة الحبيب الذى يخضع لعملية جراحية خطيرة، وتسقط سوزان ذات القلب الضعيف عندما تعرف ذلك، فى منحنى درامى يصنعه الروائى ليعقد موازاة رمزية بين وضع مصر السياسى الذى يختلط فيه الحلم بالكابوس، ووضع الحبيبين اللذين يدخلان غرفتين للعمليات، ما بين القاهرة ودبى، متأرجحين ما بين الموت والحياة. ورغم هذه النهاية الميلودرامية، المقصود بها الموازاة بين السياسى العام والفردى الخاص، فإن حيوية الشخصيات الأساسية تنتقل إلى الشخصيات الفرعية، فنواجه شخصيات حية، يصعب نسيانها. ومنطقى أن تدور أغلب أحداث الرواية فى القاهرة، وتتتابع بما لا يفارق منطق السببية، وبما يقيم علاقات الشخصيات على التوازى فى حالات، وعلى التضاد فى حالات مقابلة، فتكتمل خاصية التنوع السردى، ويظل القارئ معلقا بالأحداث، يريد أن يعرف- دائما- ما الذى سيحدث بعد. أما الأصوات الثلاثة التى تصلنا الرواية من خلالها، صابغة الأحداث والشخصيات بلون كل منها وتحيزاتها، فمن البديهى أن تكون الغلبة فيها لصوت الراوى، لأنه الصوت الذى ينقل إلينا أهم ما حدث، وما يسهم فى حركة السرد، عبر مساحة زمنية تقارب أربعين عاما، على النقيض من صوتى الحفيدين اللذين يغطيان مساحة زمنية معدودة فى أيامها التى لا تجاوز أصابع اليد الواحدة. وتنوع المكان لافت فى فضاء الرواية، دال بما فيه من تجمع المقهى الذى يصل أبناء الحى الواحد دون تمييز فى العقيدة؛ فمناخ التسامح يعمر المقهى، ولا يوازى المقهى فى حميمية المكان سوى تجمعات الشباب اليسارى، سواء فى كلية الفنون أو فى لقاءات العمل الحزبى، حيث يبرز حضور الفتاة المصرية المسيّسة التى بدأت تفرض وجودها مع السبعينيات. وبقدر ما نتذكر ملامح الشخصيات الأساسية والفرعية فى الرواية، على مدى الامتداد السردى، فإن الطابع المصرى لافت بما يجعل الأحداث والشخصيات تفرض نفسها على مخيلة القارئ، فيندمج فى عالم الرواية كما لو كان طرفا فيها، خصوصا وهو يستمع إلى الحوار الحى الذى يتنوع بتنوع المستوى الثقافى والنفسى والاجتماعى للشخصيات. وشأن كل روايات الواقعية النقدية فرواية ناصر عراق لا تبشر بشىء ولا تقوم بوعظ، وإنما تكتفى بتقديم مشاهد حية، تتولى تعرية ما فى الواقع من مظاهر الفساد السياسى، والخلل الاجتماعى، والتعصب الدينى، والتدهور الاقتصادى، وما يترتب على ذلك كله فى بناء سردى، يوقظ وعى القارئ، ويستفزه لكى يسهم فى تغيير هذا الواقع الذى هو بعض منه وطرف فاعل فيه. لمزيد من مقالات جابر عصفور