تدور أحداث رواية بيت النار لمحمود الورداني في مدينة القاهرة التي لا نفارقها إلا إلي مدينة طنطا لعامين لا نعرف عنهما إلا ما يسترجعه البطل من محطات حياته في عوالم المهمشين والفقراء, والهاربين من الاعتقال السياسي مع تصاعد أحداث الرواية التي تنتهي بالمعتقل. وبقدر ما تتباين أحوال المكان, داخل الفضاء الأوسع للمدينة, تتعاقب الأحداث المستعادة بعد أن اكتمل نضج البطل مع نوع من الاكتئاب المصاحب لهزيمة الفكر الاشتراكي الذي انتسب إليه, نتيجة الاستبداد السياسي للسادات الذي تحالف مع أعداء الفكر الناصري في تحوله إلي الاشتراكية, أعني الولاياتالمتحدة زعيمة الرأسمالية العالمية ومظلة الإمبريالية المعادية للمساعي الوطنية نحو العدالة الاجتماعية والخلاص من التبعية, في عيني المحترف الثوري الذي تحول إليه البطل الساداتي, وأضف إلي ذلك الدولة الاستبدادية للسادات في تحالفها مع تيارات الإسلام السياسي لتقضي علي بقايا الناصرية في توجهها نحو العدل الاجتماعي والاستقلال الوطني, وهو الأمر الذي أوقع طوائف اليسار المصري بين سندان الدولة التسلطية للسادات ومطرقة قوي الإسلام التي ما دخلت التحالف إلا لتقضي علي أحلام البطل مصطفي وأقرانه من التنظيمات التي كانت منطوية علي جرثومة فسادها, سواء في تشرذمها أو عزلتها, أو الشقاق والفرقة في داخل كل منها. ولذلك أعتقد أن نقطة النهاية في الرواية هي نقطة البداية التي تتولد منها حياة البطل ما بعد الخروج من السجن الذي دخله بعد ثورة الخبز في يناير .1977 وعندما يكتب البطل الخاتمة, مودعا إيانا, فإنه يخبرنا عن التنظيم الذي واراه التراب, وعن فريدة التي قالت له, قبل أن ينفصلا رسميا, إن اختيارها له وللتنظيم كان خاطئا من الأساس, وإنها أصبحت مريضة وتعالج من الاكتئاب, هذا النوع من الاكتئاب هو ما نحدس بوجوده خلال أسطر النهاية التي تحولت إلي ما يشبه الفاعل في عملية الاسترجاع التي تعود بنا إلي شهر مايو 1962, المحطة الزمنية الأولي للاسترجاع في المسار الذي تتتابع فيه المحطات, إلي أن نصل إلي لحظة النهاية في توابع يناير 1977 التي تمثل نهاية الزمن الروائي, لكن بما يوازي رؤية الكاتب محمود الورداني للعالم الفعلي الذي كتب الرواية لتوازيه مع الانتهاء منها في مايو 2011 بعد ثورة يناير بأشهر عدة انقطع فيها المسار الصاعد للثورة, بما أدي إلي إحباط الوعي الجمعي المصري. هكذا يستعيد مصطفي تاريخه الموازي لتحولات بلده, من منظور النهاية التي حددت البداية, وتحولت إلي مصفاة لاختيار المحطات السابقة في الزمن وتفاصيلها, وذلك علي نحو يطغي فيه حضور الحاضر علي الماضي الذي لا نراه إلا بعدسات الحاضر المنكسر, وذلك في مواراة حضور مصطفي البطل الروائي علي كل ما عداه, فهو البطل الذي لا تسترجع ذاكرته إلا كل ما يتجانس مع نزوعها الذي يحكم عملية الاسترجاع, ولا نري من حوله إلا علي نحو ما نري شباك قطار يعبر الزمان والمكان بنا إلي نقطة النهاية, فلا نعرف إلا لمحات سرعان ما تغيب عن أعيننا مع حركة ذاكرة البطل في عملية الاسترجاع, الشخصية الوحيدة التي لا تفارق عدسة الاسترجاع, أو قطار الذاكرة, هي الأم قمر, ولذلك يظل لها حضورها المضمر حتي بعد انتهاء الخاتمة, أما فريدة الحبيبة الماركسية فهي شخصية مسطحة, شأنها شأن فاطمة الخرسا ونوال وحنان, كلها أجزاء موضوعة في اللوحة لإبراز صورة البطل المهيمن علي السرد بقدر ما هو فاعل فيه, ولذلك لا يختلف سرده الخاص بفريدة, جوهريا, عن سرده الخاص بحنان, ففريدة ليست كائنا من لحم ودم, مثل قمر, وإنما هي تقنية سردية, تكشف عن المحطة اليسارية في حياة مصطفي, وهي محطة تبدأ من انضمام البطل إلي المجموعات اليسارية من طلاب الجامعة الذين ظلوا ينجذبون إلي اليسار حتي مطالع السبعينيات, وتنتهي بانضمام البطل إلي أحد تنظيمات اليسار السرية, وتحوله إلي محترف ثوري متفرغ, في تجربة تنتهي بالفشل والإحباط اللذين ينعكسان علي حضور فريدة التي لا نراها إلا بوصفها حيلة سردية موازية. وهو الأمر الذي ينطبق علي بقية الشخصيات الأخري التي تمر علينا في الرواية, ذكورا وإناثا, فهي حيل سردية وظائفها داخل القص استكمال المشاهد التي تتراكم آثارها علي البطل في رحلة تكوينه ونشأته التي أوصلته إلي ما تركناه عليه في النهاية, لكن من الإنصاف القول إن عددا من الشخصيات النسائية تنطوي علي جاذبية خاصة, رغم كونها حيلا سردية لاستكمال ملامح وتجارب ومراحل تكوين البطل الطاغي بحضوره, وطريقته الشيقة في السرد, أعني الكيفية التي تدفعنا إلي الشعور بمتعة السرد الذي ينقلنا برشاقة خبير بين شخصيات عديدة, بعضها بالغ الغرابة, وبعضها بالغ الطرافة, وبعضها الآخر أمثلة علي الفقر والبؤس اللاإنساني. لكن تبقي بعض المناطق التي كانت تستحق المزيد من الاسترجاع, أولها ما يختص بوقع هزيمة 67 علي وعي البطل الراوي الذي كان عمره سبعة عشر عاما عندما حدثت الكارثة بمعناها العام والخاص في آن, وثانيها موت عبد الناصر, أعني النقطة المفصلية لعام 1970 الذي توفي فيه عبد الناصر الذي كان حبيب الملايين. ولم أجد في السرد ما يكشف فنيا عن الكيفية التي تحول بها مصطفي المستغرق في مشاكله الخاصة إلي مصطفي اليساري الذي يمضي في طريق احترافه السياسي, وقل الأمر نفسه عن وقع عبور القناة علي مصطفي اليساري الذي جزم بأن السادات لن يدخل حربا, ومع ذلك فعلها الرجل بغض النظر عن كيفية إدارته البائسة للمعركة, أما عن أسلوب الرواية الذي ينطلق مباشرة إلي هدنة في سلاسة وبساطة ومباشرة فهو أسلوب لا يتردد في الجمع بين العامية والفصحي, وعدم الخجل من أنواع السباب التي يلتقطها البطل الطفل من الأحياء الشعبية التي عاش فيها واكتسب لغة حواريها بأدبها وقلة أدبها, لكنه في النهاية يضيف إلي عنصر التشويق الذي جعلني لا أترك بيت النار إلا بعد أن انطفأ لهب الحكي وانتهي السرد مع الصفحة الأخيرة. المزيد من مقالات جابر عصفور