اذا كان كافكا يقول لنا إن الكتاب الذى لا يُحدث صدمة لقارئه لا يستحق قراءته، فإن رواية ناصر عراق الأخيرة «نساء القاهرة دبى» تُحدث عدة صدمات وتثير رياح الدهشة فى مجتمع الروائيين، بما تتناوله وبما تقدمه من حكى اقترب من 700 صفحة عن أسرة مسيحية من شبرا عاصرت تقلبات وتحولات البناء الاجتماعى المصرى منذ اكتوبر 1973 وحتى نهاية 2011. لأول مرة تظهر الأسرة المسيحية بشكل ملحمى حيث تتوالى أربعة أجيال بدءا من الاستاذ جرجس مدرس اللغة العربية المستنير والمحب لطه حسين ومرورا بابنته انصاف التى يستشهد زوجها الضابط بالقوات المسلحة خلال حرب اكتوبر، ثم أبنائها من بعد ذلك سوزان ومينا وانجيل، ثم الجيل التالى الممثل فى مادلين وفيليب ابنى سوزان. تدور الرواية فى زمنين متباينين الأول بعد ثورة يناير فى دبى حيث ترقد سوزان مريضة فى مستشفى تنتظر اجراء عملية جراحية، والثانى زمن الحكى الذى يتوالى منذ حرب اكتوبر وسنوات الانفتاح وتزامن صعود التيار الدينى وانتشار التدين الظاهرى وظهور بؤر للتطرف والتعصب .فى الزمن الأحدث تسقط الأقنعة والسواتر وتتذكر سوزان المريضة والمعبرة عن مصر بعد ثورة يناير سنواتها الماضية بانتصاراتها وانكساراتها، بينما يسلسلنا الزمن الأقدم بحكايات السماحة والطيبة والمودة الطاغية فى شوارع وأزقة شبرا. ربما كانت طفولة وصبا ناصر عراق بشبرا ركنا أصيلا فى رسم ورصد ذلك الحى بحكاياته ورجاله، وربما كان انتماؤه لليسار رافدا من روافد جرعة السياسة المُركزة التى تنضح بها كثير من رواياته حيث رفض الظلم، والنضال من أجل العدالة، والانحياز للتحرر والايمان بحقوق المرأة. تحافظ انصاف على أبنائها بعد استشهاد زوجها، تحسن تعليمهم وتربيتهم فى ظل ارشاد والدها الاستاذ جرجس، تنضم ابنتها سوزان لإحدى الحركات السرية وتحب شاب مثقف هو يحيى، لكنه لا تلبث أن تهجره لترتبط بآخر مسيحى، ثم تتزوج فى النهاية من شقيق مارسيل زميلة والدتها، لكن بعد سنوات تكتشف برودة حياتهما خاصة بعد سفرهما للحياة فى دبى، وهناك تبدأ قصة حب جديدة خارج كافة القيود الاجتماعية، وساعتها تكتشف الجمال الحقيقى للحياة. تقوم الثورة فى مصر بعد أن أدخلتها ارهاصات الانفتاح عصر التزييف والفساد، وتبدأ سوزان أو مصر حياة جديدة تتطلع إليها بعد عملية جراحية لازمة. فى تلك الأثناء تكشف المرأة لابنتها خباياها دون خجل، تعترف بحبها الآخر، وبانفصالها الجسدى والمعنوى عن زوج فرضته الأقدار عليها، مثلما هى مصر التى عليها أن تصارح أبناءها بخطاياها وأن تعيد الارتباط العاطفى بحاكم يليق بحبها بدلا ممن فرضتهم الأقدار عليها. بأظافر نابشة ينحت ناصر عراق عالمه الابداعى فى تؤده وتوهج يليقان برسام يصور النفس الانسانية تصويرا عميقا متسقا مع تنوع وتباين الشخصيات المحيطة. ببساطة اللغة وجاذبية السرد يصنع الأديب الكبير جمهوره ويميزه عن عموم جمهور الرواية بالتصاقه بالمرأة وقضاياها، واسرافه فى تذوق الفنون سواء الغناء أو الرسم. لقد فاجأ ناصر جمهور الأدب من قبل بتغريبته الرائعة «من فرط الغرام» التى رصدت مشاعر الغربة وقساوة الترحال، ثم قدم المبدع رؤية جديدة لمفهوم انسان الهامش فى روايته «العاطل» التى رشحت ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية فى العام الماضى، لكنه الآن يقدم خوالج النساء ودوافعهم للحب والحياة والتمرد فى رحلة طويلة عبر الزمن منقيا مسيحيين مصريين رافعا قبضة التحدى فى وجه التعصب والطائفية المتمددة فى دماغ الامة المصرية منذ سنوات.