سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الاثنين 12 مايو 2025    تعرف على أسعار الخضار والفاكهة في أسواق البحيرة    تعرف علي موعد مباراة بيراميدز وصن داونز في نهائى دوري أبطال أفريقيا والقناة الناقلة    تمثيلية يؤديها مدمن كوكايين.. صحفية أمريكية تعلق على تصريحات زيلينسكي حول وقف إطلاق النار    إغلاق ميناء العريش البحري بسبب سوء الأحوال الجوية    إصابة طالب بحروق إثر حادث غامض في البراجيل    في حوار خاص.. رئيس مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير يتحدث عن التحديات والرهانات والنجاح    جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة: الهلال والنصر.. مصر وغانا في أمم إفريقيا للشباب    حقيقة تعاطي قادة أوروبا الكوكايين خلال عودتهم من أوكرانيا    برلماني أوكراني يشير إلى السبب الحقيقي وراء الإنذار الغربي لروسيا    «إسكان النواب» تستمع لمستأجري الإيجار القديم اليوم.. ووزير الأوقاف السابق يوضح موقفه من القانون    جريمة زوجية وجثة حسناء في سهرة حمراء وانتقام للشرف.. أكتوبر على صفيح ساخن    أسعار سبائك الذهب 2025 بعد الانخفاض.. «سبيكة 10 جرام ب 54.851 جنيه»    أغنية مش مجرد حب لرامي جمال تقترب من تحقيق مليون مشاهدة (فيديو)    المطورين العقاريين: القطاع العقاري يُمثل من 25 إلى 30% من الناتج القومي    ما شروط وجوب الحج؟.. مركز الأزهر للفتوى يوضح    زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب جنوب غربي الصين    أمن الإسماعيلية: تكثيف الجهود لكشف لغز اختفاء فتاتين    النصر يتطلع للعودة إلى الانتصارات بنقاط الأخدود    المجلس الوطني الفلسطيني: قرار الاحتلال استئناف تسوية الأراضي في الضفة يرسخ الاستعمار    لبنى عبد العزيز لجمهورها: الحياة جميلة عيش اليوم بيومه وماتفكرش فى بكرة    يارا السكري ترد على شائعة زواجها من أحمد العوضي (فيديو)    تزامنا مع زيارة ترامب.. تركيب الأعلام السعودية والأمريكية بشوارع الرياض    حكم اخراج المال بدلا من شراء الأضاحي.. الإفتاء تجيب    أمريكا تعلق واردات الماشية الحية من المكسيك بسبب الدودة الحلزونية    وفري في الميزانية واصنعيه في البيت، طريقة عمل السينابون    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الاثنين 12 مايو    أصالة تدافع عن بوسي شلبي في أزمتها: "بحبك صديقتي اللي ما في منك وبأخلاقك"    توجيه مهم من السياحة بشأن الحج 2025    حقيقة وفاة الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق    مدير الشباب والرياضة بالقليوبية يهنئ الفائزين بانتخابات برلمان طلائع مصر 2025    جيش الاحتلال ينفذ عمليات نسف كبيرة فى رفح الفلسطينية جنوبى قطاع غزة    عمرو سلامة عن مسلسل «برستيج»: «أكتر تجربة حسيت فيها بالتحدي والمتعة»    تكليف «عمرو مصطفى» للقيام بأعمال رئيس مدينة صان الحجر القبلية بالشرقية    المهندس أحمد عز رئيسا للاتحاد العربى للحديد والصلب    حبس وغرامة تصل ل 100 ألف جنيه.. من لهم الحق في الفتوى الشرعية بالقانون الجديد؟    خاص| سلطان الشن يكشف عن موعد طرح أغنية حودة بندق "البعد اذاني"    عاجل- قرار ناري من ترامب: تخفيض أسعار الأدوية حتى 80% يبدأ اليوم الإثنين    ندوة "العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في فتاوى دار الإفتاء المصرية" بالمركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي    تبدأ في هذا الموعد.. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي بمحافظة أسوان 2025 (رسميًا)    وزيرا خارجية الأردن والإمارات يؤكدان استمرار التشاور والتنسيق إزاء تطورات الأوضاع بالمنطقة    عاد إلى إفريقيا.. الوداد يحسم مشاركته في الكونفدرالية بفوز في الجولة الأخيرة    مشاجرة عائلية بسوهاج تسفر عن إصابتين وضبط سلاح أبيض    3 أبراج «مكفيين نفسهم».. منظمون يجيدون التخطيط و«بيصرفوا بعقل»    «انخفاض مفاجئ».. بيان عاجل بشأن حالة الطقس: كتلة هوائية قادمة من شرق أوروبا    عاصفة ترابية مفاجئة تضرب المنيا والمحافظة ترفع حالة الطوارئ لمواجهة الطقس السيئ    بسبب ذهب مسروق.. فك لغز جثة «بحر يوسف»: زميله أنهى حياته ب15 طعنة    منافسة رونالدو وبنزيما.. جدول ترتيب هدافي الدوري السعودي "روشن"    نجم الزمالك السابق: تعيين الرمادي لا يسئ لمدربي الأبيض    مع عودة الصيف.. مشروبات صيفية ل حرق دهون البطن    حسام المندوه: لبيب بحاجة للراحة بنصيحة الأطباء.. والضغط النفسي كبير على المجلس    خبر في الجول - جاهزية محمد صبحي لمواجهة بيراميدز    مواعيد عمل البنك الأهلى المصرى اليوم الاثنين 12 مايو 2025    الاعتماد والرقابة الصحية: القيادة السياسية تضع تطوير القطاع الصحي بسيناء ضمن أولوياتها    هل هناك حياة أخرى بعد الموت والحساب؟.. أمين الفتوى يُجيب    جامعة بنها تطلق أول مهرجان لتحالف جامعات القاهرة الكبرى للفنون الشعبية (صور)    الإفتاء توضح كيف يكون قصر الصلاة في الحج    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبانا الذي في ماسبيرو"
نشر في النهار يوم 09 - 12 - 2011

دون ميادين مصر .. يتخذ المسيحيون كورنيش ماسبيرو مكاناً للتظاهر وإسماع أصواتهم .. تتعالى هتافاتهم ارفع راسك فوق .. انت قبطي ويتوارى نداء انت مصري الذي سمعناه في ميدان التحرير قبل أشهر قليلة من وقفتهم تلك .الاختيار الذكي للموقع الحساس يعكس نجابة الذهنية المسيحية المصرية ، كونه شريان ضيق وحيوي يسع كتلتهم ويلوي ذراع وقلب العاصمة .. يشلها ويحرج الدولة ممثلة في جهاز اعلامها ووزارته التي يتظاهرون تحتها فيما أًطلق عليها مظاهرات ماسبيرو والتي أبدى الاعلام المصري في تعامله معها أداءاً أقل ما وصف به أنه (غير مهني) .. بعدها يطل علينا وزير الاعلام حين يقدم تعازيه للبابا معتذراً ، ويبرر أداء شاشته بأنه ميراث نصف قرن من الاعلام الموجه والسلطوي ..هذه هي الصورة من الخارج .. ما يعرفه الجميع وما يراه .. بناء دائري محاط بأسوار شائكة وجنود مدججة بالسلاح تفرق دمهم ودماء غيرهم من المصريين بين أيادى خفية خارجية وأذرع فلول داخلية وحقيقة غائبة تستلزم لجان عدة لتقصي الحقائق .ومن فوق المبنى أبراج إرسال تبث عبر أثير القاهرة أنباءاً عن وقوع شهداء من الجيش وقتلى من المسيحيين !!!!!ربما كانت أزمة ماسبيرو دون غيرها من الأزمات التي تعامل معها التليفزيون - منطلق مناسب ونقطة بداية ملائمة لقراءة رواية (شبه دولة) لمحمد جراح الذي تعرف من غلاف روايته أنه بخلاف كونه روائي فهو قبل ذلك مذيع بالإذاعة المصرية أي أنه أحد أبناء ماسبيرو .. أو العاملين به والمؤتمرين بتعليمات وتوجيهات الرئاسة أوالسلطة ممن يصدمون المشاهد بكونهم ملكيين أكثر من الملك نفسه وعسكريين أشد من المجلس العسكري ..في روايته تلك ينظر جراح إلى الدولة المصرية حين ضربها الفساد وعشش في أجهزتها العطن، فتغيرت وتشوهت وتحولت من الدولة القوية للدولة الرخوة أو كما في عنوان روايته مجرد : شبه دولة .***طفل صغير يشخص بناظريه في ترعة قريتهم أمام منزله الريفي حيث البراءة والاخضرار وطيور أبي قردان البيضاء الناصعة التي تختلف عن مثيلاتها في المدينة وتحديداً أمام حديقة الحيوان حيث تتشح ذات الطيور بالسواد والوسخ ، وعبر رحلة النضج والتحقق يحتفظ هذا الطفل بهذا المشهد ويماثل بينه وبين وقوفه أمام ماسبيرو شاخصاً للنيل (الترعة الكبيرة) .. هكذا يرسم جراح صورة بطله الذي اختار له وظيفة مذيع بالتليفزيون المصري يتنمي إلى أبناء ماسبيرو من الأغلبية الصامتة .. المقاومين للنحت والحالمين بنجاح وفق قانونهم الخاص والشرفاء دون مواقف عنترية ، فمنتهى الشرف أن تبقى كما أنت ، أن تحافظ على نفسك من الانحدار ، ليتحول التجابن إلى حصافة ، والرويَّة إلى رُشد ، والصمت إالى بلاغة .. تدخر نفسك وتحافظ عليها كي لا تُمحى فتختار معاركك وتقبل بالهزائم الصغيرة لتنجو بنفسك وتقبل راضٍ دفع تلك الضريبة .. ضريبة البقاء سليماً كاملاً في ماسبيرو بدون عطب .يُشرِّح جرَّاح في روايته تلك أداء المؤسسة وتهافته من خلال تاريخ قياداته متتبعاً العلاقة بين تخبط أدائها وبين تخبط العاملين بها ، وطارحاً أسئلة من نوعية هل المؤسسة داجنة بطبعها وبشخوصها وبالموافقات الأمنية التي تعد أحد مصوغات التعيين الأساسية بها ؟ وفي مؤسسة كهذه كيف يتواجه العقل والتهور، التريث والإقدام ، التماسك والتفريط ، ولمن الغلبة بين هاته المتناقضات ، وهل يكون النصر في النهاية لشبه الدولة ؟(كنا أبواقاً ننتظر في كل مرة التعليمات ولا نستطيع تجاوز خطوط الرقيب الذي يسكننا قبل النظر لخطوط الرقباء الذين بيدهم القرار ، وكنت في ذلك الخضم المتسارع والمتلاحق أرصد وأحلل ، أنتقد وأتحدث ، لم يكن أحد يسمع ، كتبت ونشرت لكنني لم أستطع التأثير في ذلك الانفتاح الجديد .) ص71.حال الوطن يقرأه البطل متذكراً أحداث حياته المهنية في ماسبيرو راصداً تحولات هذا المبنى الضخم من خلال نماذجه الشائهة التي تقدمها الرواية : مومسات طامحات للقيادة ، شواذ جنسياً يصيرون رؤساء قنوات ، قوادون يتدرجون وظيفياً لرؤساء قطاعات ، حملة حقائب ومباخر، سكرتيرات وفنيين وفَّقوا أوضاعهم وعدلوا مسارهم التعليمي ليبرزوا على الشاشة نجوماً لامعة ، وفي ظل كل هذا الازدحام والعبث يصبح الكولاج هو الوسيلة الأمثل لرسم شخصيات الرواية عبر فصولها ال 37 والتي تبدو للوهلة الأولى عفوية و تلقائية أشبه باسكتشات قلمية حيث خفة الوصف وبساطته والابراز السريع لأهم الملامح الشكلية للشخصية ولمحطات حياتها ، ولا يحرق الراوي كل أوراقه دفعة واحدة ، لكنه يدفع لقارئه أجزاء صوره ، قطعة قطعة حتى تتحول تلك الاسكتشات إلى بورتيرهات أو صور قلمية شيئاً فشيئ وتحافظ على استقلالها وانتظامها في نفس الوقت في الخط العام للسرد حتى لو تقاطعت مع شخصيات أُخرى .يبدأ الراوي سرد (روايته شهادته) يوم تولي آخر وزير للإعلام المصري قبل الثورة لمهام وزارته ، فيختار امرأتان تعبران بهو المبنى وكلتاهما عالمتان بخفاياه .. بقوانينه الباطنة ونواميسه المتحكمة في مصائر البشر فيه ، نحتتا كل منهما مكانها في ذاكرة الراوي بيد أنهما على طرفي نقيض .. الأولى بعرضها المتكرر الذي تقدمه في بهو المبنى فاضحة رموزه وكاشفة أسراره ومتلقية لهمسات الداخلين لماسبيرو المتهمينإياها بالجنون ، فلا تجني إلا مصمصة شفاه العابرين واتعاظ المارين بمآلها وما فعله فيها هذا المبنى ، والثانية التي تعبر نفس البهو بعد أن أشاح الهواء فستانها فبدت ساقاها أثناء هبوطها من سيارتها ، فيتذكر البطل كيف أنها كانت زميلته ولكنها تجاوزته عبر علاقتها بالمسئول الكبير الذي لا يحدد البطل اسمه أو وظيفته لكنه يتحكم فيما سيمضي عليه الوزير من أوراق ، تتجاوزه تلك الزميلة كما تجاوزه زملائه وتلامذته الذين أصبحوا رؤسائه فيما بعد ..هكذا يختار الراوي أن يبدأ ذكرياته بعد فصلين تأسيسيين يتحدث فيهما عن قريته وبرائته ومرضه بالبلهارسيا ذلك الطفيل الذي يسكن الأجساد والدم فلا يستطيع المرء لسنوات التخلص منه أو من آثاره ، فيتساءل القارئ أي الطفيليات الأخرى سكنت بدن وروح البطل ؟!!!(تعال أيها الماضي الجميل كم أكون سعيداً وأنا أفتح صفحاتك وأسترجع مع سجلاتك ذكرياتي التي ولت حلوها ومرها وها أنذا أختار الصفحة وأقرأ من ذكرياتي) ص36.حيلة لجأ إليها البطل ليبرر سرده الحر والعشوائي رغم انسيابية السرد قبلها فتصدمك وتقطع متعة القراءة وهو ما يتكرر بطول الرواية حين يتدخل البطل / الراوي في التنظير لأداء الإعلام المصري أو أداء الدولة وسياساتها وحينها يسقط كاتبنا هو الآخر في فخ المباشرة والوصاية على المتلقي وهو ما كان يعيبهما على أداء مؤسسته .وعبر فصول الرواية كان التليفزيون دائماً في خلفية مشهد كل مصيبة تحدث في مصر سواء على المستوى القومي أو على مستوى الرواية وشخصياتها حيث ماسبيرو/ المبنى في خلفية المتظاهرين أمامه ، وهو جهاز التليفزيون في المنزل المحرِّض ببطلته العارية في خلفية مشهد زنى المحارم بين الفتى وأخته ، وهو نفسه التليفزيون / الوسيلة الإعلامية التي ألقت في وجهنا مشهد اغتيال السادات :(ارتبك ساعتها التليفزيون ثم انقطع الارسال .. وغابت الصورة !) ص36يرصد جرَّاح تجليات شبه الدولة في اخفاقات الدولة في كل المناح ويضع خريطة للفساد فيؤرخ لتردي الأوضاع في مصر عبر الحديث عن رموز الفساد وترزية القوانين وإفسادهم الحياة النيابية ومن قبلها قيامهم بإفساد التعليم بتجارب من هنا وهناك ليعرج بعدها على جرائم واخفاقات وزراء الزراعة والصحة إلى الرياضة لتحصل مصر على الدرجة زيرو في ملف المونديال وكل الملفات الأخرى .ويمارس نزقاً طفولياً أحياناً حين يستخدم الملاسنة والتلميح إلى بعض الشخصيات الشهيرة التي عرفناها من خلال الشاشة .(كلاهما كان ضابطاً ، الأول في المخابرات ، والثاني في البوليس ، لكن الاعلام جمعهما ببريقه وشهرته ، أو ربما التقيا بدون ترتيب) ص45(قيادة للإذاعة اشتهرت ببرامجها الخفيفة التي تشبه التسالي) ص34(غريبة الأطوار ترقص في الاستوديو وتقلد أصوات الرجال .. مفتونة بالصحافة وصورتها فيها) ص332وعليك عزيزي القارئ بقليل من الاجتهاد أن تخمن من تكون تلك الشخصية حيث لم يمنح تلك الشخصيات أسماءاً باستثناء صافيناز التهامي المذيعة التي أفرد لها الفصل الثلاثين بكامله والذي بدا موضوعاً في الرواية لمجرد رغبته في الإشارة للمذيعة التي تزوجت من مسئول كبير سابق بالرئاسة . ثرثرة ونزق وملاسنة يمارسها الراوي لرصد بعض من أهل ماسبيرو ، وكأنه يريد توريط القارئ معه في ممارسة تلك النزوة التي تعتمد على اكتشاف من يكون صاحب أو صاحبة الاسم ، والمفارقة أنه حين يمنح أبطاله أسماءاً فإنه يُفرِّغ الأسماء من مدلولاتها فلا يصبح للناس من أسمائها نصيب ، بل على العكس تماماً ، حيث تتحول ألقاب كالبدوي ويوحنا من القداسة إلى الدنس عبر اسقاطها على المترددات على شقة المسئول الكبير أو تعاونها مع الأمن ، موضحاً حيثيات التصعيد في ماسبيرو ومحدداً إياها في العمالة : كتابة التقارير للأمن أو الاستخدام (البدني والفكري) أوالجهل ومحدودية الرؤية ليبرر في النهاية لماذا لم تفلح المحاولات مع هذا المبنى الذي يبدو أنه يستعص على الإصلاح فحتى ثورة التصحيح لم تصحح المبنى : (رأوا أنه لسد الفجوة التي أحدثتها ثورة السادات فهم مضطرون إلى قبول أناس جدد للعمل ، أناس كانوا غير جديرين بالمكان الذي يعتمد على الابداع فجاء إلى المبنى موظفون أتاحوا هم أيضاً فيما بعد الفرصة لأبنائهم ولجيوش السكرتارية أن تحتل مواقع الموهوبين) . ص68***التغييرات الشديدة والحادثة في الشخصية المصرية يرصدها الكاتب عبر نماذج روايته وللمفارقة يختار أن تطول أبشع الموبقات لب الشخصية المصرية النقية ممثلة في أهل الجنوب بنقائهم الفطري : (ليت والدنا لم يخرج بنا من هناك، وقنعنا ببركة الفقر، ودفء الجنوب وحميمية الناس المعدمين هناك.) ص120 121.وذلك حين يزيل الراوي طهارة الجنوب العميق والبريء بقصة سحر المخرجة السمراء عضوة الحزب الحاكم ونوادي الأثرياء والشخصية القريبة من دوائر صنع القرار والتي تحتفظ بآراها لنفسها كي لا تفقد امتيازات لجنة السياسات والتي يعجب بها البطل ويظل على علاقة بها لفترة وعبر اسكتشاته المتكررة لها تكتشف أن أخاها هو الآخر يضاجعها بعد أن ضبطها مع أحدهم في الشقة ، ويرهص الكاتب بهذه العلاقة المحرمة باستخدام لعبة الضمائر حيث يلجا لضمير المؤنث الغائب فلا تدري إن كان يعود على سحر أم على وظيفة أخاها وذلك حين يصف أسرتها فيقول :(أما أخوها الثاني فهو ذلك المطلق الذي عمل بالصحافة ، ثم جمع بينها وبين امتلاكه لمكتب خاص بأعمال الدعاية والاعلان ، فلما توسع نشاطه طلق زوجته بعدما ضبطها مع مساعده فأغلق شقته وعاد للعيش معها كوحيدين لأسرة رحل أباها .) ص120 ،ولكنك لا تقتنع بتبريره بخيانة زوجته له لسقوطه المتعمد مع أخته وابتزازه لها !!!.وتكاد تصدق البطل حين يتحدث عن زملائه في ماسبيرو ممن عملوا بوظائف أخرى غير الاعلام ليزيدوا دخولهم فيقول : (التمست دون اقتناع لبعضهم الأعذار ، لكني لم ألتمس للمنحرفين منهم أي عذر) ص41.بيد أنه يفرط في تعاطفه مع شخصيات الرواية فيحاول تبرير السقوط الأخلاقي لأبطاله وانحدارهم بشكل يناقض مقولته السابقة ، فسالي البدوي تلك القيادة النسائية التي افتتح بها روايته هي المرأة التي يبرر انحدارها بتقريظ زوجها الدائم لبرودها الجنسي ، وعايدة رئيس التحرير يرجع علاقاتها بنفس المسئول الكبير وضيوفه وزملائها لانهيار زواجها لدمامة وجهها الشديد ، و يمن القيرواني التي أحبت مطرباً من المغرب العربي وتغير اسم شهرتها تقرباً له تدخل في علاقات عدة بعد أن تخلى عنها هذا المطرب ، ومنصورة يسري المذيعة المتعاونة مع الأمن كان أباها شاذ جنسياً تركها صغيرة مع أمها التي تورطت في علاقة رأتها منصورة وهي صغيرة .. والقائمة تطول وتبريرات الراوي لشخوص الرواية تتعدد ، ولكنه لا يبرر استمتاعهن بالمزايا التي حصلن عليها جرَّاء تنازلاتهن ولا عدم تحفظهن في أن يأخذن حقه في الترقي ، ويظل على تبريريته تلك حتى مع أحد الوزراء الذين أفرد له مساحة لا بأس بها في روايته رغم مكوثه على الكرسي لفترة قصيرة فعن هذا الوزير يقول على لسانه :(أنا منهم .. ذكَر نفسه وهو ينظر من نافذته إنه ينتمي لذلك العصر، عصر ناصر) ص51.فهل كان يبرر ويبرأ ساحة الوزير باستحضار
رمزية ناصر هنا ورومانسية تداعيات فترته ؟ أم كان يقصد البحث عن شرف ما في تاريخ هذا الوزير حتى لو كان خاطراً أو حديث نفس بعد أن أوضح أن ثمة تنازل قدمه هذا الوزير للسلطة حين كان في شبابه وكيل النائب العام والمحقق في قضية سيد قطب ؟!!.في روايته ترى ماسبيرو المبنى الذي تنتشر فيه الشائعات ويقتات على فتات بعضه بشكل أقرب لأكل الجسد لخلاياه وحين يصفه جغرافياً يشير لبقعة طُهر تقبع خلفه قاصداً مسجد سيدي أبي العلاء الذي على ورعه وتقواه لم يحفظ ماسبيرو من شروره فيحيلك للتساؤل كيف تكون هناك قطعة نقية خلف كل هذا الفساد وكيف يتطاول بنيان ماسبيرو شبه الدولة على أبي العلاء بسموه وعلوه ، مفارقة جغرافية ومصادفة روائية بامتياز .وتستمر المفارقات فالأخت منصورة التي يتظاهر الشباب القبطي لأجلها بعد اختفائها هي إحدى بطلات الرواية وهي مندوبة التليفزيون بإحدى الوزارات التي تثرى من خلال علاقاتها بالمسئولين وهي ذات المرأة التي احترفت الدعارة وهي طالبة وحين دخلت للمبنى كانت أن سعت بنفسها للأمن لعرض خدماتها الجنسية للإيقاع بمن يريدوا لكنك في المقابل تجد دميانة المعادل المسيحي للبطل التي ترفض تجاوزها إدارياً على جدارتها الوظيفية فتُصعِّد قضيتها في الكنيسة بإيعاز من منصورة ويلتف الشباب القبطي من ورائها وتعتصم بالكاتدرائية ليظهر البابا مؤكداً لهم أن تجاوزها في الترقية ليس له أبعاداً طائفية إنما هو خطأ إداري بسيط لينتفض الشباب القبطي في مظاهرة خارج الكاتدرائية .اختيار أزمة الفتنة الطائفية كخلفية للأحداث أمر له دلالته ربما كان رهان البطل على أن تجاوز تلك الأزمة وحلها هو شرط عودة العافية للبدن المصري ووجدانه واسترداد مصر لروحها الحقيقية وتسامحها الأصيل .ولكن كيف برر البطل استمراره في المبنى ؟ يصف البطل روشتة البقاء حياً في ماسبيرو :(لو لم أكن قارئ نشرات ، لو لم يسافر أكثر الرجال ، ما كنت مستمراً حتى الآن .و لو لم أكن أملك من المهارات الأخرى ما يستفيدون بها لكنت قد لحقت بطوابير المعطلين منذ سنوات، كنت واحداً من أصحاب الرأي لكني لم أكن من أصحاب القرار. وعشت انتظر أن يأتيني المنصب الذي انتظرته لكنه كلما اقترب مني بشدة وأنتظره مع غيري كان يذهب بعيداً ويأتينا ليقودنا من لا يعرفنا ولا نعرفه ، وكنا نكيف أنفسنا في كل المرات .) ص 96تتوالى الاعترافات :(من تبقى معي كان تائهاً بين عصرين ، عصر حكم فيه الجهلاء وعصر يحكم فيه الصبية الدخلاء وبين هؤلاء وأولئك ضاعت أحلامنا العامة والشخصية .. نظرت إلى مسيرتي فوجدتها قبض الريح .) ص72.***شبه دولة لمحمد جرَّاح تعد نموذجاً لأدب ما بعد الثورة وتدفع قارئها دفعاً للتساؤل : أين كان صوت الكاتب من قبل حتى لو كانت هذه الرواية مشروع لديه منذ سنوات ؟ وهل كان لابد من ثورة لحثه على البوح والتكلم ؟ هل ينتقم جرَّاح بتعرية المبنى بشخوصه وآلياته ، وبتحققه كمبدع خارج هذه المؤسسة عبر مشروعه الأدبي (ثلاث مجموعات قصصية وأربع روايات وأعمال أخرى تحت الطبع) ، ولماذا هذا التحول الأسلوبي في مسيرته الإبداعية ؟ هل قرأ الجرَّاح أن التسليع والتسويق للمضمون المثير والفضائحي هو الأنسب لفترة ما بعد الثورة حيث الصوت العالي والصراخ الشديد ، خاصةً وأنك تلمس رصانة أسلوبه وأصالة ابداعه في منجزه الأدبي وبخاصة مجموعته القصصية (الأيقونة) أو روايته قبل الأخيرة (صوب مياه دافئة) والتي استشرفت قيام الثورة فكان فيها جرَّاحاً حقيقياً .وكيف سيمارس القارئ الفصل بين الراوي - البطل وبين كاتب الرواية المذيع بالإذاعة المصرية بما يجعله يقرأ رواية شبه دولة على أنها شبه سيرة لكاتبها .(سجلت كثيراً مما رأيته وأراه ولما انتبهت وجدتني وأنا أكتب عنهم أكتب عن نفسي أيضاً ، ألم أكن معهم ؟!) ص23.(كان علي أن أسأل نفسي وأنا أتباعد عن صدارة المشهد عن مدى ما أصابني طوال تلك السنوات هل كنت مريضاً مثل بعض من أراهم ؟) ص363.ليسأل القارئ نفسه : هل يفعل ماسبيرو بأبنائه الشرفاء كل هذا حقاً ؟ ولماذا تتراوح نهايتهم بين الموت كمداً أو الجنون الصريح أو الثورة المتأخرة بعد سنوات من التجابن ؟ وأخيراً يبقى أن نشير لتصدير الكاتب لروايته بأن : (كل أحداث الرواية وشخصياتها خيالية حتى وإن شابهها الواقع في بعض الأحيان) !!!. ص3.***

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.