على غير موعد.. وفى إحدى الأماسى وبينما أدير مؤشر التليفزيون على القنوات المصرية القديمة ماسبيرو فإذ بعينى تلتقط عنوان سهرة تليفزيونية قديمة تعاد إذاعتها.. وتساءلت بينى وبين نفسى: ترى تعاد إذاعتها لأهميتها الدرامية والفنية؟ أم يا ترى تحية لبطلها الذى غادرنا.. الفنان القدير «أحمد راتب» الذى يُعد من الممثلين ذوى الوزن الثقيل فى تاريخ الفن المصرى؟! على كل قلت: رب ضارة نافعة.. فوفاة «أحمد راتب» تعد خسارة كبيرة للفن.. وإذاعة هذه السهرة الذى تغافل عنها التليفزيون المصرى.. ثم فجأة انتبه لأهميتها.. يّعد فتح باب كنا نظن أنه قفل بالضبة والمفتاح.. ذلك لكونها تؤكد أن الفن له قيمة حقيقية فى صياغة وجدان الأمة.. وأن رسالته التثقيفية لا يمكن إغفالها أمام الترفيه الذى صار اليوم إسفافًا وتسطيحًا!! السهرة بعنوان: «أحمد عبدالمعطى يقابل إخناتون» ومن تأليف الكاتب الكبير «يسرى الجندى» وإخراج «عمرو عابدين».. وإذا كانت السهرة يعود تاريخ إنتاجها إلى سنوات عديدة مضت.. لكن تظل فكرتها العميقة تحمل طزاجة قضايانا الراهنة.. ومن هنا تأتى ضرورتها.. بشرط أن نتأملها بعمق.. ونقرأها بروية.. بعد أن صارت معظم المسلسلات والسهرات المصرية أقرب إلى «سلق بيض»!! نعم تراجع الاجتهاد والإتقان.. وتقدم الفبركة والتلفيق والاقتباس الذى هو سرقة مقنعة ليس إلا.. ومن هنا علينا أن نتساءل بداية: ما الفكرة؟ إنها تتلخص فى إرهاب الحاكم.. بعد أن بدأت بإرهاب المحكومين.. كأنها سلسلة متصلة ومتصاعدة! كيف حدث ذلك؟!! إنه حدث فى التاريخ القديم والحديث أيضًا.. إذا ما اعتبرنا أن تاريخ الأمة سلسلة متصلة الحلقات.. علينا أن نستهدى بدروس الماضى.. لكى نضىء الحاضر.. هكذا أراد المؤلف المسرحى القديم «يسرى الجندى» أن يصوغ لعبته الفنية بمهارة ليصنع منها لعبة مركبة يعتمد على الفانتزيا عندما تصل حلقات الماضى بالحاضر.. وهو يشابك بين الشهيد «عبدالمعطى» المجند فى حرب أكتوبر «73» وبين الفلاح الفصيح.. الجد الفرعونى.. المضمد منذ آلاف السنين وهما أبناء قرية واحدة هى «الملاحات».. وبينهما يأتى وجه «إخناتون» الفرعون الذى شق عصا الطاعة على كهنة آمون.. وطالب بعبادة إله جديد.. بعد أن أدرك أن هذا الكون يحكمه إله واحد.. فما كان من هؤلاء الكهنة أو رجال الدين «المرتزقة» الذين يتربحون من الدين مثلهم مثل الجنود «المرتزقة» الذين يتربحون من الحروب والمعارك.. ولأن «إخناتون» يطيح بمصالحهم ويقضى على فسادهم.. يتأمروا عليه.. كما تآمروا من قبل على الفلاح الفقير «أخونانوب» وسرقوا محصوله وخيره.. وأدعوا أنه أهان الإله وتطاول على الفرعون الأكبر «أمنمحتب الثالث» «والد إخناتون».. وفى النهاية نَكَّلَوُا به وقتلوه!! إن «يسرى الجندى» باقتدار يصنع من الرجال الثلاثة الذين أثروا فى أمتهم وأضاءوا لنا الطريق.. صنع منهم حلقات متصلة لا انفصام بينهما وبيننا.. ابتداء من الجندى الشهيد «أبو المعاطى» «طارق دسوقى».. فى أكتوبر 73.. وهو أستاذ للتاريخ.. ظل يفتش، وينقب عن جدوى الوجود.. وعن قائده كفرد فى خدمة وطنه.. ودوره فى صنع عالم أفضل.. فيقع بحثه وعقله.. على جده الفلاح الفقير «أخونانوب» ابن قريته «الملاحات» هذا الصلب، العنيد.. الذى واجه الفرعونى الأكبر أمنمحتب وكهنة آمون المتحالفين معه.. بما وقع عليه من قهر واستغلال واستلاب لثروته.. لم يخف، ولم ينكسر ولم يناور.. قالها صريحة: أيها الفرعون: «إن أمير البلدة هو اللص.. الذى سرق محصولى وحميرى».. الفرعون لم يصدقه.. بعد أن ألتف الكهنة حوله، وزيفوا الحقائق.. أما الابن الصغير «إخناتون» فظل يحمل درس الظلم والاستبداد ويحاول نفيه وظلت صورة الفلاح «أخونانوب» لا تبرح صدره.. حتى إنه عندما تولى الحكم بعد وفاة الأب.. فبدأ بالقضاء على تحكم هؤلاء الفئة عن الكهنة.. ومن هنا اشتعل الصراع بينهما.. هم ينصبون أنفسهم وسطاء بين الآلهة والرعية ويأكلون «مال النبى» كما يقول المثل الدارج.. أما هو فقد بشر بالإله الواحد». «يسرى الجندى» يؤكد أن المواجهة قائمة بين الخير والشر منذ أن خلق الله آدم.. والصراع بين أبنيه قابيل وهابيل.. وأن الشهيد «عبدالمعطى» يدخل التاريخ لأنه يصنع مجد الأمة ينتصر لإرادتها الحرة.. مثلما فعل جده الفلاح «أخونانوب» عندما لم يتنازل عن حقه.. مثلما فعل الفرعون «أخناتون» صاحب رسالة التوحيد.. وقد دعى إليها ولم ترهبه مؤمرات الكهنة.. وكأنه يؤكد أن تجار الدين موجودون منذ فجر التاريخ.. وهم يمارسون الإرهاب على الرعية من الفقراء، وعندما يصادف أن يأتى فرعون ليقضى على مصالحهم وفسادهم مثل «إخناتون» فإنهم يناصبونه العداء.. ومن ثم يقتلونه.. إنها حقًا حلقات متصلة الوطنى بالإجتماعى بالدينى.. إن علينا أن نتسلح بهذا الوعى.. فى مواجهتنا لإرهاب الأمس واليوم على السواء!