هكذا ضغطت على ذهنى.. هذه الآية الكريمة أمام النقد الذى داهمنا فى رموز كبار من مبدعين عظام .. وعلماء أجلاء.. خلال أيام معدودات.. حقًا «يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة» فرغم الآية وجلالها ومصداقيتها إلا أنها تشيع فى القلب لوعة وانكسارًا.. لا اعتراضًا على إرادة المولى عز وعلا ولا على الموت كحقيقة مطلقة وإنما على الفراق.. انقطاع صلة الحميمية والعطاء. فى لحظة الفراق تتجلى الحقائق وينكشف الرصيد وبالتالى الحساب الختامى الذى دوّنه الفقيد من أعمال وأفكار فى وجدان من أحبوه وآمنوا به.. وهو يأتى بشكل سريع وعفوى وأحياناً مباغت ولا أنسى مشهدين فى هذا السياق: مشهد جنازة جمال عبدالناصر وطوفان البشر المتحرك وجنازة السادات التى وصفها بعض المحللين بأن الشعب المصرى أعطى ظهره لها وهو يتوجه لغدٍ جديد!! نعم.. تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.. فها هو رحيل الفنان المصرى الأصيل «محمد خان» يشكل صدمة لمحبيه وقد افتقدوا طلته بابتسامة لم تفارقه أبدا رغم ما كان يكابده من صعوبات فى مقدمتها نضاله فى سبيل الحصول على الجنسية المصرية.. تلك الجنسية المعروضة للبيع والشراء الآن لمن يستطيع الدفع من مستثمرين أجانب.. لعله العار فى أعلى صوره وأشكاله لكن ما علينا.. نعود للراحل الذى لم ييأس وقد حصل على الجنسية المصرية بعد أن بلغ السبعين من عمره وعندما حصل عليها أصر على أن يلصق وجهه بابتسامته الشهيرة بالرقم القومى المصرى الذى يثبت مصريته رسميًا قام بتوزيعها على معظم الصحف.. وبالمفارقة أن أعمال «خان» السينمائية العديدة قد انتزعت المصرية بجدارة منذ عقود سابقة.. انتزعتها بالجماهيرية العريضة.. منذ أن أخرج أول أعماله فى بداية الثمانينيات «ضربة شمس» وأعقبها ب«موعد على العشاء».. بعدها تعددت الرؤى وتنوعت الأفلام وفاقت ال17 فيلمًا وجميعها تنبض بالمصرية وتشع بالإنسانية وتتميز بواقعية ساحرة انتزع بها عشرات الجوائز العالمية والمحلية والعربية. نعم فرحيل هذا الفنان الجميل «محمد خان» يعد خسارة كبيرة وهو العاشق للنيل والثغر والمدينة والريف.. للإنسان البسيط الذى يشق طريقه فى الحياة كما يشق عامل المنجم طريقه وسط الحجارة وتلال الرمال.. أما المرأة فهى سر من أسرار تألق سينما خان.. تتنوع الصور: المرأة العاملة، الخادمة، الطالبة، المدرسة.. وهى وإن تنوعت لكنها تصب فى صورة جامعة الباحثة عن بارقة أمل أمام طوفان الزيف والفساد والذئاب الجائعة كما رأيناها فى فيلمه الأخير عاملة المصنع. قد يكون هناك وشائج صلة بين سينما خان وأدب وفكر «يحيى حقى».. بل بين الرجلين شخصيًا.. فكلاهما كان يعشق عمله، يبذل الجهد، ويسهر الليالى حتى يصل به إلى درجة من الاكتمال والتميز.. إنهما نموذجان للفنان الأصيل والمبدع والخلاق والذى يبغى التغيير ويكشف عن العوار وعن الأمراض الاجتماعية وبخاصة المسكوت عنها.. ومن الأحاديث التى استرعت انتباهى للمبدع القدير يحيى حقى رحمه الله ذلك الحديث الذى لم ينف فيه أصوله التركية!! قائلًا «أنا لا أنكر ذلك.. لكن كل من يفتش فى قلبى وعقلى سيرى أن كل خلية.. بل كل حصوة أو حجر تنبض بحب مصر وعشقها». نعم من منا ينسى تلك الأفلام المأخوذة عن روايات مثل «قنديل أم هاشم» «البوسطجى»، وتلك الفسيفساء الخاصة والدفينة للشعب المصرى التى جسدتها هذه الأفلام؟! أوليس هذا دليلًا على الحب وقد تبدى فى أدبه والذى لا يزال قادرًا على إبهاجنا حتى اليوم؟.. ورغم ذلك لم يتردد بعض الحمقى فى قذفه بحجارة أنه «غير مصرى» !! وهى حجارة فاسدة سرعان ما ارتدت إلى نحور هؤلاء الحمقى المتاجرين بالجنسية المصرية بين الأمس واليوم. إن مداحى السلطة وكارهى الفن الجميل موجودون فى كل زمان ومكان.. وهم بالأساس يحترفون «التجارة».. يتاجرون فى كل شىء حتى بلغ بهم الأمر أن يتاجروا فى الجنسية المصرية الآن.. وقد أسقطتهم سينما خان الساحرة وفضحتهم.. ومن قبلها أدب وفكر يحيى حقى الأصيل والنبيل.. ولهذا فإن سيرة الرجلين قد نحتت الاسمين بحروف من نور على الجدارية الكبرى لعظماء مصر ومبدعيها. ولم تمهلنا الأيام إلا وداهمنا رحيل العالم الكبير أحمد زويل وكأن مصر على موعد مع الأحزان.. بل مع الاستنزاف القسرى لقواها الناعمة.. فلا أحد ينكر أن د. زويل لمع فى سماء عالمنا المصرى والعربى فى أعقاب نيله جائزة نوبل فى الكيمياء عام 1999.. وهو من مواليد البحيرة فى 26/2/1946.. فكانت فرحة كبرى تأججت بها مشاعر المصريين.. وبخاصة الشباب.. وفى أحد الاستفتاءات على العالم المصرى جاءت النتائج مذهلة.. فقد رأت الفتيات فيه فتى أحلامهن.. أما الشباب فقد رأوا فيه سفيرهم المنشود فى الحلم الأمريكى.. وهذا إن دل فإنما يدل على تراجع قيمة العلم والعلماء.. بل الثقافة بشكل عام فى سماء مصر .. إذ كيف تحول العالم الجليل إلى فتى أحلام وإلى نجم من نجوم السينما ينافس حسين فهمى آنذاك؟! ثم كيف تحول العالم ومكتشف الفيمتو ثانية إلى منافسة مع نجوم الكرة الخاضعين إلى العرض والطلب؟! لعلها المعضلة التى واجهتنا وواجهت العالم أحمد زويل منذ ما يزيد على 15 عامًا. هل تغير الوضع بعد ثورتى يناير ويونيو؟! نعم الإعلام سعى إلى التعريف بالعالم، والنخبة ظلت تردد الاسم، بل الإنجازات العلمية الكبيرة.. لكن ظل الرجل يعانى الانقسام حوله.. ولعل ذلك ما دفعه إلى الإعجاب بنجيب محفوظ صاحب نوبل فى الأدب عندما قال له إنه بعد نوبل رأى 50 ٪ من الناس معه.. أما ال50٪ الآخرون فهم ضده !! فقد حاول البعض بعد ثورة يناير أن يغروه بالدخول إلى معترك السياسة وسرعان ما شعر أنه الخاسر فى النهاية.. ولهذا ركز على إنشاء مدينة «زويل فى العلوم والتكنولوجيا».. وهى بدورها لم تسلم من رياح عاتية وعواصف من قبل أصحاب «جامعة النيل».. وأيا ما كانت المعارك الخفية فى زمن المخلوع، والمعلنة بعد يناير التى خاضها زويل والاتهامات التى وُجِّهت له لكنه سيظل العالم الكبير الذى أنجز الكثير فى العلم وحلم بالكثير بالنسبة لبلده مصر.. رغم أنه أخذ الجنسية الأمريكية عام 1982. سيظل الباقى هو حلمه بإقامة قلعة للعلوم والتكنولوجيا فى مصر وهو حلم كبير وعزيز على قلوب المصريين جميعهم.. فهل سيتحقق هذا الحلم؟ وهل سيتحقق توطين التكنولوجيا الحديثة فى الأرض المحرمة التى هى مصر؟! أعتقد أن هذه هى الأمنية الدفينة التى تفسر وصية العالم زويل بدفنه فى ثرى مصر.. وكأنه وضع الجرس فى رقاب علماء مصر.. فهل سيناضلون ويواصلون العمل من أجل تحقيق الحلم الذى يبدأ باستمرار العملية التعليمية.. ولا ينتهى بتخريج دفعات وعلماء وكفى.. وإنما علمٌ يستفاد به.. وعلماء ينقبون عما ينفع الناس ويرتقى بالواقع المصرى؟!