تعتبر تجربة كوريا الجنوبية في توطين التكنولوجيا النووية في بلادها، نموذجا تقتدي به الدول الطموحة للدخول في مجال إمتلاك تصنيع التكنولوجيا النووية، فالصعود المبهر في صناعة الطاقة النووية لم تأتي من دون تحديات، فقد خططت ونفذت برنامج نووي متكامل، فهي تجربة ناجحة بجميع المقاييس، ويجب أن تكون أحد الدروس المستفادة التي تستند اليها مصر في معالجتها لمشروعها النووي. كوريا الجنوبية كانت من أوائل الدول المهتمة بمجال التكنولوجيا النووية، فبدأ نشاطها النووي بعد الحرب الكورية '1950-1953'، ولكنها لم تبدأ مشروع بناء أول محطة نووية إلا في السبعينيات، وكوريا الجنوبية هي من الدول الموقعة علي معاهدة حظر الانتشار النووي، وتبنت سياسة تهدف إلي الحفاظ علي 'شبه الجزيرة الكورية خالية من الأسلحة النووية'. وضعت كوريا الجنوبية خطة من ثلاث مراحل لتوطين الكنولوجيا النووية في بلادها، المرحلة الأولي تسمي 'الإعتماد علي الغير'، والمرحلة الثانية تسمي 'منهج المكونات'، والمرحلة الثالثة تسمي 'الإعتماد علي الذات'، ولتنفيذ خططها النووية، فقد بدأت كوريا الجنوبية بعقد تحالفات تجارية في المجال تكنولوجيا الطاقة النووية مع كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وفرنسا واليابان، بغرض إنشاء محطات نووية. في عام 1974، وقعت الولاياتالمتحدةالأمريكيةوكوريا الجنوبية أول إتفاق للتعاون النووي السلمي 'وتسمي اتفاقية 123 لقسم 123 في قانون الولاياتالمتحدة للطاقة الذرية 1954'، حيث قاد هذا الاتفاق كوريا الجنوبية للتركيز علي تطوير المراحل الوسطي فقط من دورة الوقود النووي، وهذا مفاده أن كوريا الجنوبية لا يحق لها إمتلاك تكنولوجيا التخصيب وتكنولوجيا معالجة الوقود المستنفد. في إطار تنفيذ المرحلة الأولي من برنامج الطاقة النووية في كوريا الجنوبية، تم التعاقد مع الشركات الأجنبية لبناء المحطات، علي أن يكون دورالشركات الكورية هو اكتساب المعرفة في مجال التكنولوجيا النووية لتصنيع المعدات والمكونات كحد أدني، ففي عام 1972 بدأ بناء أول محطة نووية Kori-1، من نوع الماء الخفيف المضغوط PWR، بواسطة شركة وستنجهاوس الأمريكية، وكان مولد البخار والتربينة والمولد من شركة جنرال اليكتريك GEC، وتم بناء هذه المحطة بنظام تسليم مفتاح، وقدرة المحطة الصافي 556 ميجاوات، وبدأ تشغيلها عام.1978 وفي عام 1977 بدأ إنشاء المحطة Kori-2، من نفس نوع محطة Kori-1، وبدأ تشغيلها عام 1983، وقد شاركت الصناعات الكورية بنسبة 12.9% في تصنيع المعدات والمكونات للمحطة Kori-2. وفي عام 1977، بدأ إنشاء محطة Wolsong-1، موديل Candu-6، من نوع الماء الثقيل المضغوط PHWR، بواسطة هيئة الطاقة الذرية الكندية بنظام تسليم مفتاح، قدرة المحطة الصافي 657 ميجاوات، وبدأ تشغيلها عام 1983. في إطار تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج كوريا النووي، بدأ إنشاء المحطة Kori-3 والمحطة Kori-4، عام 1979 وعام 1980، وهم من نوع الماء الخفيف المضغوط PWR، ذات ثلاث دوائر تبريد، بواسطة شركة هيونداي Hyundai، وقامت شركة وستنجهاوس الأمريكية بتوريد المفاعل، وشركة جنرال اليكتريك GEC وردت مولد البخار، قدرة المحطة الصافي 895 ميجاوات، تعتبر محطة Kori-4 أول محطة نووية في كوريا يتم زيادة فترة دورة الوقود لتصبح 18 شهر، بدأ تشغيل المحطتين عام 1985 وعام 1986 علي التوالي. كما بدأ بناء محطتين للطاقة النووية وهم Hanbit-1&2، في موقع Yonggwang، بواسطة شركة وستنجهاوس الأمريكية بنظام تسليم مفتاح، وهم من نوع PWR، ذات ثلاث دوائر تبريد، قدرة المحطة الواحدة 960 ميجاوات، وبدأ تشغيلهما التجاري عام 1986، وعام 1987. في هذه المرحلة، كان يتم التعاقد مع شركات أجنبية لتصميم وتوفير المكونات الرئيسية، في حين تم التعاقد من الباطن مع الشركات الكورية لتوفير المكونات المساعدة. في عام 1983، بدأ بناء محطتين للطاقة النووية Hanul-1&2، وهم من نوع الماء الخفيف المضغوط PWR، ذات ثلاث دوائر تبريد، قدرة المحطة الواحدة 960 ميجاوات، وبدأ تشغيلهما التجاري عام 1988، وعام 1989، حيث وردت شركة 'فراماتوم' Framatome الفرنسية المفاعلين، ووافقت علي نقل التكنولوجيا إلي الشركات الهندسية والمصانع الكورية، كما قدمت شركة 'ألستوم' Alstomالفرنسية المولدات والتوربينات، وبالتعاون مع 'فراماتوم'، قدمت مولدات البخار وخدمات الهندسة المعمارية، وساهمت الشركات الكورية بنحو 41.5% من مكونات المشروع، بما في ذلك خدمات التشييد. في إطار تنفيذ المرحلة الثالثة من مشروع كوريا النووي، والتي بدأت عام 1987، فقد كان الهدف توحيد معايير تصميم محطات الطاقة النووية، وتحقيق الإكتفاء الذاتي التكنولوجي في مجال المحطات النووية، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، ففي عام 1987 وقعت شركة الطاقة الكهربائية الكورية 'كيبكو' إتفاقية لمدة عشر سنوات مع شركة 'براون بوفيري- كومبسشن إنجنيرنج' ABB- Combustion Engineering CE للحصول علي وثائق التصاميم وأكواد الكمبيوتر، وتدريب المهندسين، والمشاركة في برامج البحث والتطوير والإستشارات. ولتحقيق أهداف مرحلة 'الإعتماد علي الذات'، فلابد من أن تتحمل الشركات الكورية المسئولية، فيتم إسناد الأعمال الي الشركات الكورية كمقاول رئيسي، ويتم إسناد تنفيذ الأعمال الي الشركات الأجنبية كمقاول من الباطن من خلال العطاءات التنافسية. وكان نتيجة هذه المرحلة، هو صناعة وتنفيذ المحطة الكورية التي تسمي OPR-1000، وهي إختصار جملة Optimized Power Reactor، وهي ذات قدرة كهربية مقدارها 1000 ميجاوات، وهي من تطوير شركة KEPCO Engineering & Construction Company، وحاليا كوريا تمتلك 12 محطة نووية من موديل OPR-1000 في الخدمة، كما تقوم حاليا بإنشاء الجيل الجديد من المفاعلات الكورية وهو موديل APR1400، وهي إختصار Advanced Power Reactor، وهي من الجيل الثالث '+'، وقدرة المحطة 1400 ميجاوات، ويوجد عدد 4 محطات تحت الإنشاء في كوريا، و4 وحدات تحت الإنشاء في دولة الإمارات العربية المتحدة. كان لتطور التكنولوجيا النووية أثر إيجابي علي الصناعة في كوريا، فقد قادها تركيزها علي تصنيع مكونات المحطة النووية الي تطور رهيب في مجال الصناعة الكورية، فقد شهدت مصانع الصلب ومصانع الألات والمعدات ومصانع المعدات الكهربائية إنطلاقة الي العالمية، وبلغت ذروة هذا النجاح في تواجد شركات كورية متعددة الجنسيات، مثل شركة دوسان Doosan للصناعات الثقيلة. كما أدت خبرة كوريا الجنوبية في تصنيع الوقود النووي الي تطور ونمو في تصنيع التكنولوجيا العالية والبحث العلمي المتقدم، وقد دعمت كل هذه الفوائد الكبيرة الاقتصاد في كوريا الجنوبية، وشهد ارتفاعا ملحوظا. لكن مع كل هذه النجاحات المبهرة، إلا انه من بين المفارقات الغريبة التي عكرت صفو هذا العمل الجبار، ظهرت أدلة تشير إلي أنه كان هناك تزيف وتزوير في شهادات الأمان للعديد من المكونات في المفاعلات النووية الكورية، وهو ماتم الكشف عنه في عام 2012 وعام 2013، وقد تسبب ذلك في إغلاق بعض المفاعلات النووية، وتم توجيه الاتهامات بتهم تتعلق بالفساد لأكثر من 100 شخص، بينهم مسؤولون كبار في الصناعة النووية الكورية. الأهم من ذلك، فقد ساهمت هذه الفضائح إلي فقدان الثقة العامة في القدرات النووية لكوريا الجنوبية. ومع ذلك، إذا نجحت الحكومة في طمأنة الجمهور بأن مفاعلاتها آمنة من خلال قدر أكبر من الشفافية والصراحة، فهذا ضمان للصناعات النووية الكورية أن تظل من بين الأكثر تنافسية في العالم، ونموذجا للطامحين الإقتداء به. ونلخص الدروس التي ينبغي أن تأخذها مصر لإمتلاك تكنولوجيا الطاقة النووية من خلال النجاحات المبهرة لكوريا الجنوبية، فإننا نجد أن تجربة كوريا الجنوبية تظهر أنه من الأهمية بمكان أن نتعاون مع الدول التي لديها صناعات نووية ونظم تنظيمية ناجحة. وينبغي تنظيم مثل هذه الشراكة لتوفير التعلم التجريبي ونقل التكنولوجيا لتسريع التنمية المحلية، وهذا لن يحدث بين يوم وليلة، بل سوف يستغرق عدة عقود من التفاني في بناء القدرات الصناعية الهامة.