ولا يزال 'النصب سيد الموقف.. لا أقول النصب الدولي، الذي صار مكشوفًا، بل مفضوحًا في ازدواجية المعايير، حتي الحرب بالوكالة!! وإنما أقصد 'النصب' المحلي.. 'النصب' الداخلي القائم علي قدم وساق، وكأن لا أحد يبصره، أو يقتفي أثره، وكأن حكومتنا السنية تضع نظارة سوداء تعيق نظرها، إلي أن تقع الطامة الكبري، ويظهر المستخبي.. وينفجر في الوجوه 'المستريح'.. 'ريان' جديد لتوظيف الأموال.. بعد أن اعتقد الشعب المصري وصدق أن النظام قضي عليه، في سابق عهده.. في عهد المخلوع 'مبارك'.. في ثمانينيات القرن الماضي. قلنا قبل ثورتي يناير ويونية.. إن مصر كانت تدار بقانون الفساد.. لا فساد القانون.. ولهذا حلم المصريون.. كل المصريين بأن تتحول مصر.. وبعد انتخاب الرئيس 'عبد الفتاح السيسي'.. أن تتحول إلي دولة مقاومة للفساد.. بل ساحقة للفساد، مُعليّة لقيمة المواطن والوطن.. كي يستطيع تحقيق شعارات الثورتين من العدالة والحرية إلي الكرامة والعيش والاستقلال الوطني.. ويبدو أن الرئيس 'السيسي' في وادٍ.. والحكومة والنظام في وادٍ آخر علي قديمه كما يقول المصريون الرئيس جاء ليحقق أحلام الناس وأمانيهم.. ولهذا انتخبوه بنسبة أصوات غير مسبوقة.. ولأنه أكد لهم إقامة دولة القانون والعدل والمواطنة.. لكن النظام للأسف لم يتغير بعد. إنه نفس النظام القديم البائد.. بدليل ظهور هذا 'المستريح' الذي ظل ينصب علي الناس منذ سبع سنوات طوال.. قبل الثورتين وبعدهما!! فتصوروا معي تلك الصورة الغريبة لمجتمعنا وكأن أحد كتاب مسرح العبث العالمي مثل 'يسكاتور' أو الفنان التشكيلي العظيم 'بيكاسو' يرسم صورة كاريكاتورية له!! حيث الرأس المتوقد الذي يشتعل بهموم الناس والوطن بل الأمة العربية.. وقد ركب علي جسد ضخم أقرب إلي الديناصورات المنقرضة.. وهو يعاني الترهل والمرض والقبح والجهل.. وجميعها أعراض يلخصها القانون في كلمة الفساد!! إن المتهم أحمد مصطفي إبراهيم الشهير ب'المستريح' نصف جاهل، وهو أيضًا نصف متعلم فقد حصل كما يشاع علي شهادة 'الصنايع' أو ما بعد 'الإعدادية'.. والذي تم القبض عليه مؤخرًا.. بعد أن تعالت صيحات ضحاياه من 'الصعيد' و'بحري'.. وبعد أن نصب علي المئات وربما الآلاف.. وربما ستتحدد الحقائق تباعًا من مجريات التحقيق معه وضحاياه من كافة الطبقات والمهن والحرف.. بعد أن أوهمهم بالأرباح العالية مع الحفاظ علي أرصدتهم كما هي!! فجمع منهم المليارات.. بعد أن باعوا اللي وراهم، واللي قدمهم.. بل أخرجوا ما تحت البلاطة!! لهذا دعونا نقول: إن هذا 'المستريح' يكشف لنا بجلاء حالة مجتمع يعاني طبقاته ثقافة 'المستريحين' والتي هي أقرب إلي ثقافة التخلف، والتي تعتمد علي التواكل دون التوكل علي الله، وعلي قيم الانبطاح، والبلطجة والطرمخة، والسمسرة، والفهلوة.. والرشوة والمحسوبية 'والعين ما تعلاش علي الحاجب'!! وهي بالضرورة في خصومة مع قيم المجتمع الناهض الذي يرغب في بناء ذاته من جديد.. فيعتمد علي العمل والانتاجية، علي إعمال العقل، والسعي وراء الرزق الشريف في شتي الدروب بل أشقها لأن العمل عبادة وهو وحده القادر علي بناء الأمم! وقد يسأل سائل: هل وفرت الدولة العمل.. ولم يعمل ملايين العاطلين شبابًا وشيوخًا؟! وقد يحاكم 'المستريح' ويأخذ أحكامًا مشددة.. وقد يسترد البعض من الضحايا أمواله المستباحة أو قد لا يستردها.. خاصة أن هناك حالات إنسانية دفعت ضريبة الجهل أو الطمع أو الاثنين معًا.. فلقوا مصرعهم بسبب انفجار في المخ، أو السكتة الدماغية.. فضاع العمر قبل أن تتبدد الثروة.. ولعل مشكلة النصاب الجديد.. تفتح العيون علي اتساعها إلي ضرورة مواجهة البطالة المتفشية وسط صفوف كبيرة من الشباب، غير أن تلك المشكلة ينبغي مواجهتها في اتجاهين اساسيين: الأول في إصلاح هذا الجسد الضخم الذي ورثناه عن النظام السابق وعشش الفساد في أركانه وشراينيه وخلاياه.. من الوساطة والرشوة يا قلبي لا تحزن.. وقد تكشف بعض الخيوط في تواطؤ بعض المسئولين في البنوك مع هذا 'المستريح' ضد مصالح الناس أي الضحايا!! أما الاتجاه الثاني فهو يتلخص في غرس وإشاعة ثقافة جديدة خلاقة نابعة من الطموح والتحدي الوجودي المطروح علي الشعب والدولة المصرية في وقتها الراهن.. ثقافة تزرع قيمة العقل وتمجيده في أفئدة الشباب.. وتفتح نوافذ حقيقية للاجتهاد، وفي هذا الصدد يحضرني الكتاب المهم للكاتب الكبير 'عباس محمود العقاد'.. 'التفكير فريضة إسلامية'.. بالاجتهاد نستطيع أن نقاوم آفات الماضي والماضوية.. ونؤكد أن العمل.. والعمل الجاد هو السبيل الوحيد لنهوض الأمة. ورب ضارة نافعة.. لعل عملية النصب التي فجرتها صيحات التهديد القادمة من صراخ الضحايا.. تفتح أعين الدولة.. وتدفع أجهزتها الرقابية علي ظاهرة 'المستريحين' في أنحاء الوطن ودروبه.. 'المستريحين' فكريًا وماديًا.. والمعششين في المؤسسات والهيئات المختلفة باتت من النظام البائد القديم.. فالقانون.. وتفعيله.. هو القادر علي استئصالهم من الجذور.. إن 'المستريحين' يا سادة آفة العصر.. بل كل عصر يتهاون في محاربة 'النصب' و'الفساد' و'السمسرة' إنها ثقافة تخلف وانهزام.. لا ثقافة إفاقة، واستنارة واستنفار.. إنها حلقات كالعقد الفريد الذي إنكوينا بناره.. ألم يحن الوقت بعد كي نبرأ منه ونتعافي كبقية الأمم المتحضرة؟!