إعلان الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء عن تجميد الضريبة العقارية بين حزمة إجراءات لإنعاش الاقتصاد خطوة علي طريق الإصلاح الاقتصادي، ترفع معنوياتنا قليلاً. وفي الحقيقة، فإن شرف وجودة عبدالخالق وسمير رضوان ثلاثي كانت تستحقه مصر، ولو تم اختيارهم لمسئولياتهم هذه ومارسوا صلاحياتهم من قبل لما كنا بحاجة إلي ثورة 25 يناير، فثلاثتهم يتحلون بالرؤية العلمية وبالقلب الشفوق الذي لابد أن يتحلي به المسئول في العالم الثالث، لكن "لو" تفتح الباب لعمل جمال مبارك وحسين سالم وكل شياطين الماضي! المهم أن هذا الثلاثي الشفوق والفاهم هنا الآن، وننتظر منه المزيد من الإصلاح لتحقيق المستقبل الذي تستحقه مصر العامرة بالخبرات، وليس استنادًا إلي التاريخ الذي تتغني به الأغاني والذي تغني به النظام البائد العويل. قبل أيام من الكلمة التي وجهها شرف عبر التليفزيون الأربعاء الماضي، استمعت بالمصادفة إلي صوت الدكتور سمير رضوان متحدثًا عبر التليفون إلي برنامج تليفزيوني عن رؤيته لقضية إصلاح الأجور، وعبثًا حاول الرجل أن يقول قولاً مهمًا عن هذه المشكلة المستعصية التي تم اختصارها في مقولة "الحد الأدني" ولكن المذيعة التي تقدم البرنامج كانت ترده إلي مربع "الحد الأدني" وتتصور أنها تزف إلي مشاهديها سبقًا بانتزاع اعتراف من وزير المالية بأن السبعمائة جنيه حدًا أدني للأجور أصبحت قضية محسومة. ويحاول الوزير أن يفلفص منها ليؤكد لها وجه الخطأ في الاقتصار علي مكسب الحد الأدني عند مناقشة قضية الأجور وعلي أن الحد الأقصي هو المشكلة الأكبر، لكنه لم ينجح في ردع قلة ثقافتها، أو ربما قلة إخلاصها للقضية التي تناقشها. ومن دواعي سروري أنني أكتب الآن دون أن يكون لدي المذيعة فرصة لمقاطعتي، وبالغيظ فيها أقول إن الحد الأدني كان مجرد وجه واحد من وجوه توحش الفساد واستكباره علي المصريين، حيث كان توافه المليارديرات المستوزرين يقاومون رفع الحد الأدني لأجر المصري، بينما يمكن أن يدفع أحدهم لسائس الجراج عقب سهرة في ملهي أكثر من مرتب طبيب في شهر! وكان إطلاق الحد الأقصي لما يتقاضاه الموظف العام من خلال البدلات المستحدثة الوجه الآخر للتوحش؛ حيث يتقاضي صحفي أو ضابط أو وكيل وزارة ما يتقاضاه ألف من زملائه المتساوين معه في سنوات الخدمة وغالبًا الأكثر موهبة منه. هذا الوضع لا تعرفه مرتبات الدول بل مرتبات التشكيلات الإجرامية، حيث تتمتع الرؤوس الحارسة للفساد بكل شيء وتترك الفتات للغالبية التي تعمل وتعلم. وإصلاح هذه الحدود القصوي وإعادتها إلي الواقع لتصبح مرتبات حكومة في دولة محترمة سيسمح بتمويل معظم المطلوب لرفع الحدود الدنيا من بند المرتبات والبدلات ذاته. وعندما تأتي المرتبات الجديدة علي أرضية من الإصلاح الاقتصادي في بنود أخري، سيصبح التغيير ملحوظًا بدلاً من إصلاح المرتبات وتركها تتسرب من أيدي الموظفين من خلال بنود الجباية المملوكية. ليست الضريبة العقارية الأسوأ بين اختراعات وزير المالية الهارب بطرس غالي، خاصة أنها تضمنت حدًا من الإعفاء يشمل حتي الطبقة الوسطي. الأسوأ منها ضريبة المبيعات، والجمارك علي مدخلات الإنتاج يستردها المنتجون في حالة تصدير المنتج، مما يجعل بضاعتنا في الخارج أرخص من أسعارها في مصر. من غير المعقول أن تبقي ضريبة المبيعات علي سلع الفقراء بل وعلي خدمات حكومية متعددة. وعلي حكومة الثورة أن تراجع تسعير خدمات القطاع الخاص، وأن تتمرد علي الدور الذي ارتضته لنفسها وزارات السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، وقد تراوح بين دور السمسار المحايد الذي ترك الشعب الزبون فريسة في أيدي رجال الأعمال وبين دور البلطجي الذي يقوم بتكتيف الزبون لرجل الأعمال. وقد صعقت في إحدي زياراتي للخارج عندما وجدت شركة محمول لمستثمر مصري تبيع الدقيقة هناك بما لا يتجاوز الواحد من عشرة من سعر الدقيقة الذي ندفعه في مصر. وعندما سألت عن السر، قيل ما لا أستطيع أن أثبته أو أنفيه الآن: إن زيادة السعر في مصر مسموح بها لتغطية الرشاوي التي تقدم من المستثمرين للمحروس وعصابته، وعلي أية حال فالثابت والعلني أن رسوم إطلاق الشركة الثالثة كانت خمسة مليارات من الجنيهات. ولابد أن شركات المحمول قد استردت الآن أضعاف ما دفعت من رسوم علنية ورشاوي. وآن الأوان لكي تعود إلي الأسعار الدولية، ولا يصح أن يظل سعر دقيقة التليفون بخمسة أضعاف سعرها في الدول النفطية وعشرة أضعاف سعر أوروبا. وليست خدمة المحمول إلا واحدة من الخدمات والسلع التي يمكن القياس عليها، والتي ينبغي أن تتصدي الحكومة لإصلاح أسعارها، لأن الحكومة (من اسمها) مهمتها أن تحكم وتدير، لتضع حدودًا لحرية رجل الأعمال في التنكيل بالزبون. والمثل يقول: "من وفر شيئًا كأنه جابه" ويجب أن تتولي حكومة شرف مراجعة حزمة القرف في أسعار السلع والخدمات التي يقدمها القطاع الخاص، وكل قرش ستتمكن من توفيره للمصريين سيكون بمثابة الزيادة غير منظورة للموظف المسكين.