ولما عدِمنا بمصر الملوك ... جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك لا نعرف ممن ورث بيرم التونسي مزاجه النقدي, لكننا نعرف أنه نشأ وكبر في أوان انطلاق ونهوض الحركة التحررية المطالبة باستقلال مصر وحقوقها بقيادة مؤسس "الحزب الوطني", " مصطفي كامل", ووريثه "محمد فريد". وهي الحركة التي تأججت نيرانها وبلغت ذروتها في الثورة الشعبية في العام 1919م بقيادة "الوفد", فأنحاز لها بيرم, مثل أغلبية المصريين. *تذكرتُ بيرم. محمود بيرم التونسي. العَلَم العالي من ورثة تقاليد الزجل ومُجدِّديه ومبدعيه الكبار في مصر. ومن مَرَّ علي جسره الكثيرون من شعرائها باللغة المحكية, وظلَّ شعره حاضراً يُستعاد بإهتمام وتقدير, حتي بعد مجيء شعراء الأجيال التالية: 'فؤاد حداد, صلاح جاهين, عبدالرحمن الأبنودي, أحمد فؤاد نجم, سيِّد حجاب..' الذين أحدثوا خلال النصف الثاني من القرن الفائت, ثورة في مضامين وأشكال وموضوعات وأساليب ومفردات وأوزان وإيقاعات شعر المحكية المصرية المعاصرة . وهو ما فعله أيضاً شعراء المحكية العراقية - منذ "مظفر النواب"- في خروجهم علي قوالب وأنماط الشعر المحكي التي بلغت مستويً عالياً في إنتاج الشاعر الساخر والهَجَّاء الكبير, المُلَّا "عبُّود الكرخي". وكذلك فعل شعراء المحكية اللبنانية:' ميشال طراد, جوزيف حرب, طلال حيدر, والأخوان رحباني..' في تجاوزهم الحداثي المبدع لمنظومات "الزجالة" و"القوَّالة" و"الحَدَّائين" و"القصَّاد" الذين ما زال فنهم المتوارث يحظي بالمُريدين في أقطار بلاد الشام والمهجر. وبيرم - وهو اسم تركي يعني "عِيْد" بالعربية- ولد في حي شعبي بالإسكندرية في العام 1893م لأُسرة قدمت من تونس, في بداية الثلث الثاني من القرن التاسع عشر, فعُرفت باسم الشهرة الذي لازمها: "التونسي", يعرفه الكثيرون ككاتب نصوص غنائية مثل مُجايليَه الكبيرين: بديع خيري وأحمد رامي, ممن اشتهرت كلماتهم بأصوات عشرات المغنين والمغنيات العرب. لكنه تميَّز عنهما بمزاجه النقدي اللاذع وبتعبيره عن نبض الشعب ومظالمه, ما عرَّضه للنفي والتشريد والحرمان والمرض, سبب وقوفه في صف الشعب – وبخاصة طبقاته الكادحة- وتحريضه علي الإستعمار: الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والإسباني, ودفاعه عن قضايا العرب في عموم بلدانهم وعن المُستضعفين في العالم. وقد أمضي سبعة عشر عاماً مشرداً في المنافي - طيلة عهد الملك "فؤاد الأول"- الذي هجاه بيرم في إحدي زجلياته كصنيعة للإنجليز: ولما عدِمنا بمصر الملوك= جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك لا نعرف ممن ورث بيرم مزاجه النقدي, لكننا نعرف أنه نشأ وكبر في أوان إنطلاق ونهوض الحركة التحررية المطالبة بإستقلال مصر وحقوقها بقيادة مؤسس "الحزب الوطني", " مصطفي كامل", ووريثه "محمد فريد". وهي الحركة التي تأججت نيرانها وبلغت ذروتها في الثورة الشعبية في العام 1919م بقيادة "الوفد", فإنحاز لها بيرم, مثل أغلبية المصريين, ومثل ابن مدينته ورفيقه في الموقف, الشيخ سيد درويش, صاحب الأغاني الذائعة:"الحلوة دي" و" طلعت يا محلا نورها" و"زوروني كل سنة مرة", وواضع نشيدَي الثورة الحَيَّين في الذاكرة: "قوم يا مصري مصر اُمك بتناديك". و"بلادي بلادي بلادي= لك حبي وفؤادي". وقد شكَّلا معاً ثنائياً شعرياً- غنائياً, قبل أن يتوفي الشيخ سيِّد في العام 1923م, ويرثيه بيرم بحرقة: آهات كِتِير سِمِعتها= وانته, عِشِقت وقلتها آه م الفؤاد طلَّعتها= حَسّيتها من قلبي أنا! ومثل الشيخ "سيد درويش", الذي سيُزاح عنه وعن تراثه, التجاهلَ والتعتيم المفروض خلال الحقبة الملكية, في عهد مصر الناصرية التي أعادت له الإعتبار ومنحته التكريم كمغنٍ أصيل للشعب, واعترف به علي نطاق واسع كباعثٍ للنهضة الموسيقية والغنائية العربية, سيُكرَّم بيرم وتمنحه مصر جائزة الدولة التقديرية في العام1960م. تكوَّن وعيُ بيرم في الدروب والأحياء الشعبية لمدينة الإسكندرية. وفيها اختبر اُولي تجاربه الحياتية, وعايش آلام وتطلعات الفئات الفقيرة وبسطاء الناس من: عمالٍ, وحرفيين, وصغار موظفين, وفلاحين هجروا الريف بحثاً عن فرص العمل. وعاني ما يعانونه من اضطهاد واستغلال وتعسف, ترجمه في قصائد كثيرة لعل أشهرها قصيدته التهكمية الساخرة:"المجلس البلدي". لكن الإسكندرية التي بناها الفاتح المقدوني: الإسكندر الكبير, في مطلع الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد, وصارت في القرون اللاحقة عروس المتوسط وحاضرته الزاهية, لم تكن مدينة بؤس وشقاء فقط, فقد كانت ايضاً مدينة ناهضة طالعة من غياب طويل فرضه عليها إنقلابُ طرق التجارة الدولية وتحوُّلها عنها بعد اكتشاف طريق "رأس الرجاء الصالح" و"العالم الجديد" في الشفق الأخير من القرن الميلادي الخامس عشر, والفتحُ العثماني الذي أطاح بدولة المماليك "المصرية- الشامية" في العقد الثاني من القرن الميلادي السادس عشر. وظلت طيَّ النسيان والرمل حتي لفتت حملة نابليون الإنتباه إليها. لكن الوالي "محمد علي باشا", باني مصر الحديثة, هو من سيُعيرها الإهتمام كقاعدة للاُسطول الحربي وثغر تجاري تتواصل عبره مصر مع العالم. ثم سيبعث النشاط فيها مجدداً: شقُّ قناة السويس, والإحتلال الانجليزي وتوافد الأجانب عليها, فتستقطب المراكز والمؤسسات والفعاليات التجارية والمهنية والمالية والثقافية والإعلامية والفنية. وهذا ما أتاح لبيرم الإطلاع علي أساليب وأشكال التعبير الأدبي والفني ووسائط الإعلام الجديدة التي نقلها الأوروبيون وعرب الشام التجار والمتعلمون. وتفاعل, بخاصة, مع المسرح الغنائي الذي انتشرت جوقاته 'فرقه' وقتها بجهد المهاجرين الشوام المتأثرين بفن الأوبرا الإيطالية والمسرح الفرنسي, ووجد تعبيره الناضج بهمَّة اُستاذ قدير ذي موهبة كبيرة هو الشيخ "سلامة حجازي", الذي ما زلتُ بعد مُضِي أكثر من قرنٍ أستمعُ بتأثرٍ لتسجيلٍ قديم لقراءته الشجية لقصيدة "أحمد شوقي" المشهورة في رثاء فقيد الاُمة "مصطفي كامل" في الحفل الذي اُقيم لتأبينه عند وفاته في سن مبكرة'34سنة' في العام 1908م: "المشرقانِ عليك ينتحبانِ= قاصِيهما في مَأتمٍ, والداني" أما بيرم, فإن تفاعله مع الجديد الوافد, الذي سيتبدَّي فيما كتبه للمسرح الغنائي من نصوص, لم يصل به إلي درجةِ ذوبان الشخصية, وهو الذي تشرَّب وجدانه واستوعبت حافظته القوية, الكثير الكثير مما قرأه وسمعه من قصائد, وسِيَرٍ شعبية, وأناشيد, وموشحات, وأشعار, وأزجال, ومقامات, وأغانٍ, ومواويل, وأدوار, وخطب في حواري الإسكندرية ومشاغلها وبيوتها ومجالسها ومنتدياتها. وهذا – ربما- ما يفسِّر الصلة الوثيقة التي ربطته بالشيخ "زكريا أحمد" أكثر المُجددين الموسيقيين حرصاً علي الأصالة والهوية المصرية – العربية, إضافة إلي توافقهما في الطباع الشخصية التي تحترم الصدق وتأنف من ألألاعيب المبتذلة الشائعة في الوسط الفني. وقصة مقاطعتهما للسيدة "أم كلثوم", بسبب ما استشعراه من تقدير غير مكافيء لقيمة فنهما من قبلها, معروفة. وقد امتدت لسنوات قبل أن يعودا للتعاون معها بعد مناشدات المُحبين. فكانت ثمرة تلك العودة واحدة من روائع الغناء العربي, اُغنية: "هو صحيح الهوي غلَّاب" التي غنتها"الست" اُم كلثوم في أواخر العام 1960م, واختار الشيخ زكريا تلحينها علي مقام "صَبَا" الشجي الحزين, كما لو أنه كان يستشرف دنو ساعة أجلِه وأجلِ صديقه الأثير كاتب كلماتها, بيرم التونسي, الذي لم يطل به الوقت, فرحل في الخامس من شهر يناير- كانون الثاني من العام 1961م, ليتبعه الشيخ زكريا في الشهر الثاني: فبراير- شباط من السنة نفسها. كتبتُ مُستهلاً مقالتي بهذه الجملة: تذكرت بيرم. والحقيقة أنني أشعر بأن عليَّ أن اُصحح ما كتبته! ربما كان يجب أن أكتب أن حضوره يُلِحُّ عَليَّ بقوة.. ففي الآونة الأخيرة, استعدته مرتين: الأولي, حينما كتبت خاطرة مكثفة ضمن مقالتي" إشارات" عن قصيدته التي كتبها بعد عودته من المنفي, وغنتها "أسمهان" سنة 1939م:" محلاها عيشة الفلاح", ورأيت فيها إسقاطاً نفسياً لرغائبه واُمنياته وتوقه للشعور بالأمان - وهو المسكون بهواجس القلق والخوف- علي حياة الفلاحين. والمرة الثانية, عندما كتبت مقالتي عن الهبَّة الشعبية في تونس, فعنونتها ببيتٍ من قصيدته:" بساط الريح". لكن هاتِه الإستعادة لشاعر "الآهات" الذي أحببته منذ زمن المدرسة, ترجع في الحقيقة إلي بضع سنين, عندما اتصل بي صديق نبيل من القاهرة وسألني عمَّا أريده, فأجبته بتلقائية: ديوان بيرم.. ومُذاك, سكن بيرم بجواري! [email protected] * كاتب من الأردن