بعد عدة أشهر(5 يناير) تمر خمسون سنة علي رحيل فنان الشعب بيرم التونسي, ذلك العبقري الذي أثري وجداننا وحياتنا ومازال يثريها بفيض روائعه التي تتغني بها أم كلثوم وغيرها من الفنانين0 ولد بيرم في شهر مارس سنة1893, بحي الأنفوشي بالإسكندرية, وسمي بالتونسي إذ هاجر جده لأبيه واستقر بالإسكندرية منذ سنة1833, أما أمه فقد كانت مصرية خالصة, كان أبوه يعمل بقالا وأدخله الكتاب وبعده أحد المعاهد الدينية, فضاق صدره بالدراسة المتزمته وكان يتوق إلي الحرية والإبداع والتمرد فهجر الدراسة وخاصة بعد موت أبيه وهو بعد صبي, وعمل شريكا في محل البقاله الذي يمتلكه أبوه ولكنه خسرالمحل ورأس ماله القليل, فراح يعمل بمهن مختلفة وهو في نفس الوقت قارئ نهم للشعر والأدب وعيون التراث, يمتلك روحا متوهجة وعقلا ثائرا ناقدا, وراح يكتب أزجالا بالعامية ويقرأها علي بعض أصدقائه, الذين وجدوا فيه صوتا جديدا وروحا مختلفه عما كان سائدا من أزجال, وعندما قرر المجلس البلدي للإسكندرية ضرائب أهلية فادحة كتب بيرم رائعته: المجلس البلدي, التي أشاعت شهرته في المدينة, وفي سنة1917, رفض الكثير من أفراد الأسرة المالكة تولي عرش البلاد تحت الحراب الإنجليزية, وقبل أحمد فؤاد, فكتب بيرم: ولما عدمنا بمصر الملوك/جابوك الإنجليز يافؤاد سلطنوك ثم إلتقي بسيد درويش وجاءا معا إلي القاهرة, مع قيام ثورة1919, فكتب له بعض روائعه ومنها: اليوم يومك ياجنود/ماتجعليش للروح تمن وأنا المصري كريم العنصرين/بنيت المجد بين الأهرمين وأصدر مجلته النقدية اللاذعةالمسلة وعندما تزوج الملك من زوجته نازلي, كتب بيرم فيها هجاء مقزعا, كان من نتيجته القبض عليه سنة1920, ونفيه إلي تونس, حيث لم يرق له الحال فرحل إلي فرنسا ليعيش حياة الفاقة, وكتب: الأولة مصر قالت تنسي ونفوني,جزاة الخير, وإحساني/ والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني,وحتي الغير, ما واساني/ والتالتة باريس وفيها الكل نكروني, وانا موليير في, زماني, ورغم ذلك فقد استمر وهو في المنفي علي علاقة وطيدة بالمثقفين المصريين المغتربين من ناحية, ويرسل بدائعه من هناك لتنشر وتغني في القاهرة. وفي سنة1937, وبعد17 سنة قضاها في المنفي هبط من إحدي السفن خلسة في ميناء بور سعيد وتسلل إلي القاهرة, واتصل ببعض الكبراء الذين توسطوا لدي الملك فاروق واقتنع فاروق أن قضية بيرم لم تكن معه وإنما مع أبيه الراحل, فضلا عن أن بيرم بأشعاره قد أصبح اسما وطنيا مرموقا وفاروق نفسه في بداياته يود أن يظهر في صورة الملك الطيب, واتصل بيرم بأم كلثوم فغنت له وغني له عبد الوهاب وكارم محمود وعبد الغني السيد وعباس البليدي وكثيرون غيرهم, واختار بيرم أن ينحاز صراحة إلي العدل والعقل والحرية, ومن هنا فقد كان شعره بمثابة سوط يلهب ظهور الرجعيين والظالمين. يقول فاضحا الفوضي واختلال المعايير: أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين/ ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين/ شايلة علي كتفها عيل عينيه وارمين/ والصاج علي مخها يرقص شمال ويمين/ إيه الحكاية يابيه؟/ آل خالفت الجوانين/ إشمعني مليون حرامي في البلد سارحين/ يمزعوا في الجيوب ويكسروا الدكاكين/ أسأل وزير الشئون ولا أكلم مين؟. وينتقد تفشي الرشوة بين موظفي الحكومة فيكتب: بخمسين قرش ترفع ميكروفونك لوش الفجر وزيادة شوية/بخمسين قرش تنهب أجزخانة من المستشفيات القاهرية/بخمسين قرش يعفيك المفتش من الغرامات ويشطبلك قضية/بخمسين قرش أكتب لك مقالة بأنك من رجال العبقرية وعندما اكتشفت مقبرة توت عنخ آمون ناجاه منتقدا أحوالنا: في مصر كنت الملك لك جيش ولك حامية/ودولة غير دولتك ما تعمل المومية/وأمة غير أمتك ما تزرع البامية/ولما خشوا عليك المقبرة يلاقوك نايم مفتح.. ولكن في بلد عامية. وعندما اعترض الشيخ التفتازاني, علي بعض الدعوات التعاونية كتب بيرم: لا في الجوامع رأيت مثلك ولا في الدير/عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير/مدام فضيلتك بتاكل كستيلته وطير/يبقي الدريس والدرة والفجل للخرفان/لا.. والتلامة يستشهد لنا بالدين/إنه أمر يبقي نص المسلمين جعانين/إن كنت فاهم شريعة العدل عن لينين/انظر شريعة نبينا نازلة في القرآن/كان النبي والصحابة يجلسوا ع الأرض/ ماكانش لهم حد لا بالطول ولا بالعرض/سيدنا عثمان ما كانش عنده رتبة بيه/حتي الخليفة عمر كان يشتغل بإديه/ولا إمامنا علي عنده ألف جنيه/ولا أبو بكر عنده ست آلاف فدان/ولما تتوزع الحنطة وصاع التمر/كان اللي ياخده بلال قد اللي ياخده عمرو. ومن هنا فإنني أدعو الصديق الدكتور عماد ابو غازي أمين عام المجلس الاعلي للثقافة وهو عاشق للثقافة المصرية بلا شك, للاحتفال بالذكري الخمسين لرحيل فنان الشعب بيرم التونسي, الذي مازال يثري وجداننا ويغني حياتنا ولا يمكن تصور وجداننا المصري بدون أن نتغني ب أهل الهوي, والاهات, والحب كده, والاولة بالغرام, والأمل, وانا في انتظارك, وشمس الاصيل. وقد مات بيرم التونسي يوم الاربعاء الخامس من يناير سنة1961, حيث تصادف ان اليوم التالي الخميس موعد الحفلة الشهرية لأم كلثوم وقد قررت أم كلثوم تأجيل حفلتها للشهر القادم, غير أن أحد الناصحين نصحها أن تبقي علي الحفلة في موعدها, فأبقت عليها, وراح الناس للعزاء في الفنان الخالد وقراءة الفاتحة علي روحة وعادوا لحضور حفلة أم كلثوم الشهرية التي راحت تتغني بآخر ماغنت لبيرم هو صحيح الهوي غلاب ما اعرفش انا..يا قلبي آه الحب وراه أشجان وآلام واندم وأتوب وعلي المكتوب ما يفيدش ندم وبكي الناس وبكت أم كلثوم, كما لم يبكوا من قبل, وكانت روح بيرم تحلق فوق الرؤوس.