فجأة تهزك فجيعة الموت.. فتحزن وتتألم وتفيق علي حقيقة ربما نتناساها أو ينسينا إياها المولي عز وجل.. فلولا النسيان لأصبح الحزن جبالا، وما استمرت الحياة، صباح الاربعاء الماضي صحونا علي خبر وفاة الدكتور عزازي علي عزازي، لن أصفه بما ناله من ألقاب كونه كان محافظا للشرقية أو أنه أستاذ في النقد الأدبي والشعر، أو أنه مناضل وعضو قيادي بالتيار الشعبي ومتحدث رسمي لجبهة الانقاذ، أوالصحفي ورئيس التحرير.. فكل هذه المراتب لم تفقده يوما علي كثرتها روح الأخ والصديق لكل من عرفوه واقتربوا منه. شخصيا أعرف عزازي منذ مايقرب من عشرين عاما مضت، كان هو الكادر الناصري الذي يجوب القري والنجوع بهدف نشر المبادئ والثوابت التي حاول البعض طمسها خلال سنوات مابعد موت الزعيم جمال عبد الناصر، كان عزازي بما يحمله من نقاء سريرته وطيبة قلبه يؤثر في المحيطين به، وكان عندما يغضب من أي من الاصدقاء يواجههم في التو واللحظة، ولكن نوبة الغضب لم تكن تستمر أبدا سوي دقائق معدودات لتجد ابتسامته وضحكته المميزة وقد سيطرت علي الموقف. لم تكن تري عزازي إلا مبتسما، فلم تكن همومه الشخصية تغلب علي طبعه المحب للحياة، ولم تكن انفعالاته تسيطر علي قسمات وجهه، ولكنه كان ضحوكا وثريا في معارفه ومتدفقا في حديثة كالموج الهادر، فقد كانت ثقافته الشخصية تجعلك تقف أمامه كالتلميذ، ولكنه أبدا لم يكن متعاليا أو متباهيا بعلم أو سلطة أو نفوذ، قلت له بعدما أستقال من منصبه كمحافظ للشرقية بعد فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، لماذا تركت منصبك يادكتور كان بإمكانك أن تستمر مثلما فعل'.. ' وذكرت اسما بعينه، فرد علي قائلا 'هذا موظف وأنا لست كذلك'. كان بإمكان عزازي فعلا أن يستمر في منصب محافظ الشرقية ولكنه لم يكن طالبا لسلطة، بل ظل محافظا علي مبادئه وكان يردد 'إنني لايمكن أن أعمل مع الاخوان، أو أتلقي التعليمات منهم فكلانا يسير في عكس اتجاه الاخر'، كان الدكتور كما كنا نحب أن نناديه من باب المحبة والمودة وليس من باب التكلف، في الاشهر القليلة التي شغل فيها منصب المحافظ مهموما بمشاكل محافظته التي هي مسقط رأسه، وكان يري أن المنصب أضاف له عبئا علي أعبائه، خاصة أن السياسي يتعامل مع هموم الناس كأنها جزء من همومه، وليست مجرد مهمة وظيفية. كل من زاملوا وعايشوا واقتربوا من الدكتور تحمل ذاكرتهم الكثير من المواقف والذكريات التي تخص كلا منهم، حتي تجد أن الجميع ارتبط معه بغزول وخيوط من المحبة العميقة، فمن لم يتناول معه طبقا من الكشري في محل أبو طارق، بالتأكيد فإنه جلس معه علي المقهي في شارع فيصل أو في وسط البلد، ومن لم يزامله في صحيفة الاسبوع، فإنه بالتأكيد رافقه في العمل السياسي. عندما سمعنا خبر موته المفجع، كان الكل يطلق شراع ذاكرته فيحكي عن موقف مؤثر أو وقفة شهامة خصه بها، كل المحبين تحدثوا بلسان واحد واجتمعت ألسنتهم علي محبة هذا الرجل الذي اختطفه الموت بعد أن كان يرجو علاجا ذهب إليه في الصين. عندما كان محافظا للشرقية كان يحضر مؤتمرا انتخابيا للمرشح الرئاسي حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية السابقة في مدينة الحوامدية إحدي مدن محافظة الجيزة، وعندما أخبروني بوجوده –وكنت مدعوة لحضور المؤتمر-ذهبت إليه فوجدته جالسا بين الناس علي مقربة من السرادق الانتخابي، وعندما رآني تهلل وجهه مبتسما من المفاجأة، وقال لي ماذا أتي بك إلي هنا، فأجبته هل نسيت يادكتور أنني في مسقط رأسي، جلست إلي جواره وكان بجواره صديقه الطبيب وأحد الزملاء الصحفيين بجريدة الجمهورية، وعندما عرفني بهم قال 'تهاني بنتنا وزوجة أخي'، في هذه الجلسة التي امتدت لمايقرب من الساعة، عرفت بإصابته بفيروس الكبد الوبائي، وتمنيت له الشفاء، ومازحته قائلة 'سأتصل لأطمئن عليك هل سترد علي مكالمتي ياسيادة المحافظ' فأجابني بتواضعه المعهود 'لا.. طبعا هأرد'. بعد استقالته زارنا في الاسبوع وجلسنا نتبادل أطراف الحديث في شأن الوطن الذي سيطرت عليه جماعة الإخوان، وكان وقتها موقنا أنها مرحلة مؤقتة وأن الجيش لن يترك الأمور لمدة طويلة دون أن يتدخل لوقف هذه المهزلة، وبالفعل تحققت نبوءته أو بوجه أدق تحليله للوضع كسياسي مخضرم معجون بتراب هذا الوطن. وماهي الا أشهر قليلة تدهورت بعدها حالة عزازي الصحية، وسارت الامور علي غير مايرام وكان الملاذ الاخير في زرع كبد في الصين، ولكن كان قضاء الله سبحانه وتعالي غالب، وغيب الموت الفارس النبيل مثلما غيب قبل مايزيد علي خمسة عشر عاما أخاه الزميل صلاح عزازي وهو في العشرينيات من عمره إثر حادث أليم.. رحم الله الأخوين، وألهم زوجته الزميلة سوسن الدويك وابنتيه الصبر علي فراقه.