لا أمان في الأرض إلا بتحقيق الايمان وإقامة العدل، وقد قال الله تعالي: »الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون«. ومن أجل اقامة العدل أمر الإسلام بالوقوف في وجه الظلم والظالمين، وان تنهض الأمة لنصرة المظلومين، ودفع الظلم عن المستضعفين وعن الناس أجمعين، وقد أمر الرسول »صلي الله عليه وسلم« بالعدل والانتصار للمظلوم حين قال »انصر أخاك ظالما أو مظلوما« وعندما قيل له: ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال عليه الصلاة والسلام: »أن تأخذ علي يد الظالم فان في ذلك نصرة« رواه البخاري. وأكد الإسلام علي قيمة العدل والبعد عن الظلم، وقرر عودة الحق للمظلوم والذي لا يعيد للمظلوم حقه لا يقبل الله توبته فمن شروط قبول التوبة: رد المظالم إلي أصحابها، فان حق المظلوم يظل معلقا برقبة الظالم حتي يرد له حقه أو يعفو المظلوم عنه، فان لم يسترد المظلوم حقه من الظالم ولم يمكن الظالم المظلوم من حقه في الدنيا فانه يأخذه منه يوم القيامة حيث تكون الحقوق بالحسنات ويصبح الظالم يومئذ مفلسا لانه يدفع للمظلوم حقه من حسناته، ويتحمل من سيئات المظلوم عندما تفني حسناته دون الوفاء بالحق، فيؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح علي الظالم ثم يطرح في النار. ومن الأمور التي تمنع من اقامة العدل ان تكون هناك كراهية فيؤكد القرآن علي العدل وعلي تطبيقه في المعاملات حتي مع من يكرهه الإنسان أو يعاديه فقد قال الله تعالي: »ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي« سورة المائدة »8«. وأيضا من الأمور التي قد تمنع من اقامة العدل مراعاة صاحب المنصب أو الجاه فأكد الإسلام علي اقامة العدل علي كل الناس بلا استثناء مهما كانت مناصبهم وقد شهدت عصور الإسلام نماذج عليا في هذا حتي كان أمير المؤمنين علي ان أبي طالب يقف إلي جواره خصمة من أهل الكتاب في ساحة القضاء، وعندما قال له القاضي: »قف يا أبا الحسن« شعر ان وجهه تغير فقال له هل تأثرت لوقوفك بجوار خصمك؟ قال له: لا ولكن تأثرت لانك ناديتني بكنيتي فقلت: قف يا أبا الحسن وفي الكنية نوع من التكريم، فخشيت ان يقول اليهود ذهب العدل من المسلمين. ومن الأمور التي قد تحول دون تطبيق العدل ان تكون شهادة الإنسان علي نفسه أو علي والديه أو اقاربه، أو ان يعمل حسابا لمن يشهد له لغناه أو يشفق علي آخر لفقره، فيطالب الإسلام باقامة العدل والشهادة بالحق لله سبحانه وليس لقريب أو غني أو فقير حتي لو كانت شهادة من الإنسان علي نفسه: »يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والاقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولي بهما فلا تتبعوا الهوي ان تعدلوا وان تلووا أو تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا« سورة النساء »531«. ومما يصرف عن اقامة العدل تلبيس الأمور واخفاء الحقيقة، بأن يكون احد الخصوم من ارباب الحيل والتمويه، فيستطيع ان يتغلب علي خصمه بالباطل ويأخذ ما ليس له منه حق فيقول الرسول »صلي الله عليه وسلم: »انما أنا بشر وانكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له علي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه فانما اقطع له قطعة من النار« رواه البخاري. ومن الأمور الصارفة عن تحقيق العدل ان تكون بين الانسان وبين من يريد تنفيذ حكم عليه صلة قرابة أو صداقة أو نحو ذلك أو بأن يكون ذا وجاهة أو شرف في المجتمع فنري تأكيد الرسول »صلي الله عليه وسلم« علي تحقيق العدل عندما تشفع أسامة بن زيد المرأة المخزومية التي سرقت وارادوا أن يقيموا الحد عليها فقال رسول الله »صلي الله عليه وسلم«: »أتشفع في حد من حدود الله انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها« رواه مسلم. ويعلن رب العزة سبحانه وتعالي عباده بأنه حرم الظلم علي نفسه »ولا يظلم ربك أحدا« وجعله محرما علي العباد، فقال في الحديث القدسي: »يا عبادي اني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا« ويعلن الرسول »صلي الله عليه وسلم« اقامة الحق والعدل ومساواة الناس في ذلك وانه لا خصوصية لاحد إلا بالتقوي »ان اكرمكم عند الله اتقاكم« ويؤكد أبوبكر الصديق رضي الله عنه علي وجوب اخذ الحق من القوي للضعيف وان صاحب الحق إبما هو القوي عنده فيقول: »الضعيف فيكم قوي عندي حتي آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتي آخذ الحق منه« ويأتي من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليعلن لأهله انهم أول من يجوعون وآخر من يشبعون. ويحقق العدالة التي شهد بها صاحب كسري له قائلا كلمته المشهورة »حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر«. فبالعدالة مع الايمان، يتحقق في الحياة الامان، فإذا ضاع الايمان فلا امان. إذا الايمان ضاع فلا أمانة ولا دينا لمن لم يحي دينا وإذا ضاعت العدالة ضاع الأمان والظلم ظلمات يوم القيامة كما قال رسول الله »صلي الله عليه وسلم«: »اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة«. ولقد دعت ساحات العدالة ان الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة مخافة وقوع الظلم. وللمظلوم دعوته التي لا ترد، بل هي مستجابة كما قال رسول الله »صلي الله عليه وسلم« في الحديث الذي رواه أبوداود الطيالسي بالسند عن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله »صلي الله عليه وسلم« قال: »دعوة المظلوم مستجابة وان كان فاجرا ففجوره علي نفسه« فلا يقدح فجوره في استجابة دعائه، لانه مضطر وقد ضمن الله اجابة المضطر بقوله تعالي: »أمن يجيب المضطر إذا دعاه«. قال بعض إئمة الحديث الشريف: ويحتمل ان يريد بالفاجر الكافر، ويحتمل ان يريد الفاسق. وقالوا: »ينبغي ان يعتقد ان دعوة المظلوم مستجابة ولا ينافيه عدم ظهور أثرها حالا، لانه تعالي ضمن الاجابة لدعائه في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، وله في ذلك حكم فتخلفها عن الحصول عقب الدعاء إنما هو بسبب، فاحذر ان تقول: قد دعا فلان علي فلان الظالم فلم يستجب له، لا قال القائل الحكيم اتهزأ بالدعاء وتزدريه. وما يدريك ما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها امد وللأمد انقضاء وفيما اخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله »صلي الله عليه وسلم« قال »دعوتان« ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لاخيه بظهر الغيب«. وفيما اخرجه البخاري في صحيحه من دعاء سعد بن أبي وقاص علي ظالمه ان الله تعالي استجاب دعاء سعد رضي الله عنه حين دعا وقال: »اللهم ان كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فاطل عمره واطل فقره وعرضه بالفتن« قال عبدالملك الذي روي عنه جابر هذا الحديث: »فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه علي عينيه من الكبر، وانه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن«. وكان هذا الرجل الظالم إذا سئل عما يفعل يقول: »شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد«. وقد نهي الرسول »صلي الله عليه وسلم« عن الظلم عن ابن عمر رضي الله عنهما ان رسول الله »صلي الله عليه وسلم« قال: »المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه...« رواه البخاري ومسلم: وبين »صلي الله عليه وسلم ان أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: »إمام عادل«.