سئل الشيخ حسن العطار، شيخ الجامع الأزهر في الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي، عن حكم الشرع في الغناء والعزف فقال: "من لم يطربه غناء البلابل علي الأشجار، وعزف الأنامل علي الأوتار فهو غليظ الطبع جلف حمار"! والشيخ العطار هو أستاذ العلامة رفاعة رافع الطهطاوي، وهو أول من نقد المتون في الحواشي، حيث كانت السمة الغالبة للتأليف في ذلك العصر، وما قبله، هي أن يقوم الدارس أو الباحث أو العالم بشرح المتن، أي نص الكتاب، في الحاشية، أي الهامش الذي عادة ما كان يكتب علي جانبي النص وتحته، ولا يجرؤ أحد أن يناقش ما جاء في النص الأصلي مناقشة علمية جادة، أي ناقدة، والنقد ليس إظهار المساوئ أو المثالب، وإنما هو استحسان ما يوجب الاستحسان وانتقاد ما يتعين انتقاده لسبب علمي أو فقهي. ولذلك عادة ما يعتبر دارسو التاريخ الشيخ العطار رائدا من الرواد المبكرين للتفكير العقلاني أو الليبرالي المصري! ولقد كانت عبقرية المصريين متجلية في العديد من الأوجه الحياتية التي تم فيها المزج الفريد بين جماليات الفنون المختلفة وبين مقاصد الشرع وأحكام الشريعة، وعلي سبيل المثال وليس الحصر فإن مجال تلاوة القرآن الكريم ومجال الإنشاد الديني شهد هذا المزج الفريد، لأن تلاوة القرآن والاستماع لتلاوته واجب شرعي لا يمكن الجدال فيه، وقد اقترنت به نصوص شريفة، معناها أن نجمّل أصواتنا بالقرآن أو نحسن القرآن بأصواتنا.. ويلحق بها ما ورد عن أمر الرسول صلي الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه بأن يرفع هو الأذان لنداوة صوته، حيث جاء ما معناه أن الرسول الكريم قال للصحابي الذي جاء ينقل إليه رؤيته المنامية لصيغة الأذان: "حفظه بلالا فإنه أندي منك صوتا"! وفي موضوع التلاوة والإنشاد برعت المدرسة المصرية في المزج بين جماليات فن التلحين والأداء بمقاماته وقراراته وبقية مكوناته وبين القراءة، وظهرت أصوات كانت توصف دوما بأنها ملائكية شديدة الجمال، مما يجعل النص يدخل قلوب وعقول السامعين فور تلاوته، وبما لا يخل بالخشوع اللازم. إننا، حتي هذه اللحظة، نستمع بشغف وعطش لصوت مولانا الشيخ محمد رفعت والمشايخ الآخرين من العمالقة، مثل الشيخ محمد الصيفي والشيخ محمد صبح والشيخ عبد العظيم زاهر والشيخ محمود عبد الحكم والشيخ مصطفي إسماعيل والشيخ المنشاوي وإخوته والشيخ البنا والشيخ الطبلاوي وغيرهم، ونترنم في الإنشاد مع أصوات المشايخ علي محمود وطه الفشني والنقشبندي وطوبار وغيرهم، وكان لمدرسة القراءة والإنشاد المصرية دور هائل في العالمين العربي والإسلامي وفي أوروبا والولايات المتحدة، مما أسهم في نشر الإسلام وفي إعلاء اسم مصر في الخافقين! ثم هبت علينا رياح الجفاف الروحي والوجداني، وظل هبوبها يتصاعد حتي خرج علينا من ادعوا لأنفسهم القوامة علي عقيدة الأمة ودين الناس، وانطلقوا يوزعون التحريم يمينا وشمالا، حتي صار الأذان الجميل الذي يدخل إلي عمق القلب مباشرة أمرا مكروها كراهية التحريم أو حراما مطلقا، وحلّت محله تلك الأصوات التي تؤذن لتلقي الرعب في قلوب وأفئدة من تدعوهم لتلبية نداء الصلاة الجامعة! وتدني الأمر حتي عمت فوضي الميكروفونات المكتظة بالأصوات القبيحة المنفرة! ثم انتقل الأمر إلي تلاوة قرآنية تتسم بالرتابة والنمطية بدعوي أنها التلاوة الشرعية، وكأن الشيخ رفعت والأسماء التي سبق ذكرها لم تكن تعرف الشرعي من غير الشرعي! ولا أريد أن أسترسل لأن في فمي ماء.. وهل ينطق من في فيه ماء؟! كما قال الشاعر. وغاية ما أود أن أصل إليه هو أنني أخشي أن تكون مصر بصدد موجة عاتية من الجفاف الروحي والوجداني والإبداعي، حيث تحارَب المدرسة المصرية في التلاوة والإنشاد، وتحارَب الصوفية وهي المفرخة المثيرة للفخر التي بها ومنها جاء المزج بين الإبداع المصري القديم والمصري في المرحلة المسيحية، ثم في المراحل الإسلامية، كما يحارَب الفن بالحد من سقف حرية المبدعين، ناهيك عما يثار حول الأدب الروائي والقصص والشعر وغيره، وضرورة أن يكون هناك سقف لا يجوز تجاوزه! إنه الجفاف الذي يولّد الكبت، والكبت هو الأب الشرعي للانحراف بجميع أنواعه ولا تفصيل بعد ذلك.