لحظات اليقين في حياتي. جزر متقاربة. أو متصلة. في ذاكرتي رفع الأذان من مسجد سيدي علي تمراز. وتسابيح أبوالعباس. وخطب الشيخ عبدالحفيظ. ودروس المغرب. وأهازيج السحر. وتواشيح رمضان. ومكتبة أبي. ومفردات أخري كثيرة تشكل مشهداً كلياً. يصعب تبين فسيفسائه ومنمنماته. في ذاكرتي تلاوة الشيخ أبوالعينين شعيشع بقول القرآن الكريم: "يا أيها الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً". في تقدير "أورهان باموق" أن الشعور بالذنب هو جوهر الدين. قتلني الإحساس بالذنب. وأيقنت أن التوبة لا تجدي مع عظم الخطيئة التي ارتكبتها. لكن التلاوة القرآنية أعادتني إلي نفسي. ثمة مواجهة الضياع ثلاث مرات. باستغناء "الجمهورية" عن خدماتي "لم أكن عينت بعد!!.." كانت نهاية اللحظات مأساوية تماماً. أو هكذا بدت. أسلمت نفسي إلي ما يشبه اليأس. ولعله اليأس مطلقاً. ثم نفذ النور من كوة لم أكن فطنت إليها. اتسعت الكوة. زادت بالتالي مساحة النور. قبل أن أطمئن إلي خطواتي تحت الشمس. لتشابه الصوتين. فإن من يحب صوت محمد رفعت لابد أن يحب بالضرورة صوت أبوالعينين شعيشع. وكان بديهياً أن يستكمل شعيشع بصوته ما اعتوره التشوش في تسجيلات رفعت الإذاعية. حتي خبراء الأصوات عجزوا عن التفرقة بين الصوتين. لشدة التشابه. ولإجادة المحاكاة عند شعيشع. بدا الصوت واحداً. سماوياً. رائقاً. مع ذلك. فإن شعيشع في تلاوته التي لا تحاكي خصوصية تميزه عن بقية القراء. هو القارئ أبوالعينين شعيشع. إذا كان صوت محمد رفعت يحلق في أجواء سماوية. فإن لشعيشع صوته الذي يختلط فيه عزف الناي وخضرة الغيطان وليالي الحصاد والنجوع والكفور والكباري الخشبية ووابور الطحين وأبراج الحمام والجرن والترحيلة وأسواق القري ومواقف الأرياف ونسائم الخريف وصيد العصاري والموالد والإنشاد الديني والحضرات والأضرحة ومقامات الأولياء. صوت رفعت هو المطلق. هو أم كلثوم في الغناء. أما صوت شعيشع فهو المصرية الخالصة. الناي أحب الآلات الموسيقية إلي نفسي. يضعني في قلب البيئة المصرية.. أعرف أن آلة الناي لا تقتصر علي مصر. لكنها عندي آلة موسيقية مصرية. أستمع إلي صوت شعيشع في داخل الوطن أو خارجه. تجتذبني اللحظات بمصريتها الدافقة. وتأثيرها الوجداني الذي يصعب وصفه.