المستشار محمود العطار ربما شغلتنا الأحداث الأخيرة التي تجري داخل مصر حالياً، وتلك المؤامرات التي تحيكها الذئاب المسعورة من الخارج، عن الخطر الأعظم، وعن المأساة النكبائية الأخطر، ألا وهي ما يحدث الان - خفية أو جهارا - في جنوب مصر، عند منابع نهر النيل، شريان الحياة الأعظم لمصر. وحديثنا يهدف الي لفت النظر الي الأولويات مع المطالبة - في كل الأحوال - الي التأهب الفوري والجاد للمواجهة في أمر جلل يمس حياة كل من يعيش علي أرض مصر سيما وأن ما يجري عند منابع النهر يكتنفه الكثير من الغموض والتضارب في التصريحات. والان فإننا سوف نتساءل مباشرة هل يمكن ان يترتب علي التلاعب أو التآمر أو النقص في حصة مصر في مياه نهر النيل (55 مليار متر مكعب سنويا) حدوث مجاعة في البلاد؟ وهل شاهدت مصر مثل هذه المجاعات من قبل أم ان الامر يدخل في مجال البحث النظري والتخوف والتحوط الزائد الذي لا مبرر له! يحدثنا التاريخ عن أن قلة مياه نهر النيل، كانت هي السبب المباشر للمجاعات، ثم للفوضي الضاربة التي كان يتعرض لها الشعب المصري منذ فجر التاريخ. وقصة سيدنا يوسف نفسها، وبقراته السبع العجاف، يأكلن سبعا سمانا، ليست إلا رمزا خالد المشاكل بيئة الري في مصر. وفي العصور الوسطي سجل المؤرخون العرب، أن منسوب 61 ذراعا لإرتفاع مياه الفيضان هو الحد بين الكفاية والحاجة فإن هبط النهر عن هذا الحد فهي »الشدة« التي قد تصل الي حد المجاعة، خصوصا إذا صاحب ذلك حالة من الفوضي تسود الشعب المصري. ومن يطلع علي ابن كثير في »بداية ونهاية« نجده يروي عن آنه لما دخل عمرو بن العاص مصر، حل شهر بؤونة، فإذا بمياه نهر النيل وقد انخفضت وإذا بالنهر لا يجري، وبدأ أهل مصر في التأهب للجلاء.. فكتب عمرو بذلك الي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي أرسل اليه كتابا لإلقائه في النهر ونصه.. »أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالي أن يجريك«. فلما ألقي عمرو الكتاب في النيل، أصبح أهل مصر يوم السبت، وقد أجري الله النيل ستة عشر ذراعا، وقطع الله بذلك سنة استرضاء النيل بإلقاء فتاة عروس بكر به، من يومها حتي الان. ويقول العالم المصري العملاق المرحوم الدكتور جمال حمدان ما نصه حرفيا »ومهما يكن فإن المجاعة نتيجة نقص المياه هي ملمح تعس يبرز في تاريخ مصر الوسيط، كالنقطة السوداء، حتي لتبدو مصر، وقد إرتدت وإنزاقت حضاريا الي مستويات العالم الزنجي، وأشهر المجاعات التي شهدتها مصر، كانت أثناء الشدة المستنصرية التي استمرت بضع سنين متصلة، في أخريات الفاطمية، وانحدرت في مراحلها الاولي الي النميمية - أي أكل لحوم البشر - ثم الي أكل التربة والجيفة، وذلك حينما لم يعد يوجد الناس الذين يؤكلون، وانتهت بفناء رهيب للسكان«. وفي موضع آخر يقول الدكتور جمال حمدان إن الشوارع والبيوت تصبح مقابر مكتظة بالجثث الملقاه التي تنشر الطاعون، فإذا نحن أمام حلقة جهنمية مفزعة. وعن بروفيل المجاعة يقول إن مؤرخي العصر يقسمون علي صحة كل حرف فيها، وأن أي هزة في موارد مياه الشرب والزراعة تترك أثرها الفوري برجة تخريبية خطيرة. ثم ننتقل الي ما يرويه البغدادي فيقول انه لا يقل عن الشدة المستنصرية هولا وبشاعة بعض المجاعات الأخري، فحينما يتكاسل الشعب المصري، ويتزامن ذلك مع نقص المياه فهنا تبدأ الأسعار في الإرتفاع ويشتد الغلاء ويكون الفقراء هم أول الضحايا ثم وعقب ثورتهم إذ بهم يبيعون أبناءهم رقيقا، لكن ومع استمرار القحط لا يلبث الأغنياء في المدن كما في الريف أن يتساقطوا في الشوارع جوعا.. ويكون الرعب هو سيد الموقف. ويصف أبن تغري بردي إحدي المجاعات التي وقعت في مصر نتيجة تكاسل السكان ونقص المياه فيقول اشتد القحط والوباء سبع سنين حتي بيع الكلب بخمسة دنانير، والهر بثلاثة، وقد خرجت امرأة من القاهرة ومعها مد جوهر فقالت من يأخذه بمد قمح فلم يلتفت إليها أحد«. وأخيراً فإن التاريخ يؤكد علي انه حينما يحدث الانكماش العمراني ويغزو الملح والرمل أي البحار والصحراء أرض مصر فإن النتيجة الحتمية هي موجة جديدة من الغزو الخارجي تحتل ما تحتاجه من أرض البلاد، بينما الناس سكاري وما هم بسكاري. والان وبعد هذا العرض الثابت تاريخياً والمؤكد علمياً - قديماً بفعل الطبيعة والان ربما بفعل فاعل ماكر - فإننا نأمل أن يفكر كل مصري عما يمكن أن يحدث لو لم يجد مياها للري أو للشرب هو وأفراد أسرته ويكتشف أنه لا أمل في وجود المياه لا في الغد بل وربما حتي الي العام القادم. ثم وبعد ذلك يحق لنا أن نطالب بأمرين أولهما: أن يصدر بيان واضح من هيئة رسمية علمية موثوق بها - مسئولة مسئولية كاملة - لتجيب علي تساؤل محدد هو هل يمكن لجهة ماكرة معادية أن تقيم من المشروعات ما يترتب عليه إنقاص حصة مصر في مياه نهر النيل؟ مع تحديد الآثار التي يمكن أن تنجم عن ذلك واقتراح خطة المواجهة. ثانيهما: أن نطالب ذوي الضمائر الوطنية اليقظة - بعد ان يثقوا في نبل الهدف - بأن يعملوا علي المحافظة علي الجيش المصري قوياً قادراً في ثغور البلاد لمواجهة مثل هذا الخطر، حتي لا يجرؤ أحد علي تركيع مصر وسحقها بينما القوم وقد شغلوا أنفسهم بالصغائر وهم في غفلة معرضون...