لقد كان تاريخ مصر ليس كفاحا من أجل مياه النيل فقط, وإنما كفاح ضد مياه النيل أيضا, كما يضعها جمال حمدان في إجابته علي السؤال ما الذي كان الأخطر والأكثر تخريبا في مصر: الفيضان العالي جدا أم المنخفض جدا؟ وقد وجد مفكرنا الموسوعي الإجابة في المثل الشعبي. إنه الغرق ولا الشرق! وأتصور أن إعادة صياغة الحقيقة والسؤال والإجابة تمثل مدخل مصر في المواجهة الإستراتيجية للتحديات المائية الراهنة. والحقيقة هنا ذات وجهين, أولهما: إنخفاض متوسط نصيب الفرد من مياه نهر النيل دون مستوي الفقر المائي وما يفرضه الشرق من كفاح من أجل الماء في مصر وشمال السودان أي بلدي المصب مع مناطق أخري في بلدان حوض النيل, وثانيهما: إرتفاع متوسط نصيب الفرد من مياه حوض النيل فوق مستوي الثراء المائي وما يفرضه الغرق من كفاح ضد الماء في جنوب السودان وأغلب بلدان منابع حوض النيل! ويصبح السؤال بصياغته في سياقنا: ما هو الأخطر والأكثر تخريبا في حوض النيل: الفيض الهائل جدا من الأمطار التي تهطل علي بلدان منابع النيل أم النصيب المنخفض جدا لنصيب الفرد من حصص بلدان مصب نهر النيل؟ ويبقي الأهم وهو الإجابة عن سؤال المفاضلة بين خياري إدارة الموارد المائية; وأولهما: خيار المخاطرة بصراع وجود بين بلدي المصب وبلدان المنبع; وهو صراع من أجل المياه ضد الشرق الكامل في بلدي شمال النهر وضد كان هذا الشرق الجزئي في بعض بلدان جنوبي النهر. وهذا الصراع لن يعدو صراعا عبثيا لأن غايته لا تعدو إعادة توزيع الفقر المائي, إذا اتخذنا مقياس النصيب متزايد التدني للفرد من الموارد المائية لنهر النيل! والخيار الثاني, هو خيار تعزيز التعاون من أجل الاستثمار في المستقبل بين بلدي مصب وبلدان منبع نهر النيل; وهو صراع ضد الغرق الكامل في أغلب مناطق بلدان منابع النهر. وهذا التعاون سوف يكون مثمرا بغير جدال, لأن غايته تتطلع الي تنمية الثروة المائية, إذا اتخذنا مقياس النصيب شديد الإرتفاع للفرد من الموارد المائية لحوض النيل! ولعله من الواضح أن الخيار الثاني يفضل الخيار الأول بدون شك. لكن هذا الاستنتاج يفترض منطقيا التسليم بالفرق بين الموارد المائية في كل من نهر النيل وحوض النيل, ويفترض أيضا تغييرا في الفكر الإستراتيجي يقتضي التحول من نهج اللعبة الصفرية الي نهج الكسب المتبادل. فالنهج الأول يعني أن تتصور دولة من دول نهر النيل, التي تعاني من شح موارد المياه العذبة, أنها خاسرة بالضرورة من أي مكسب يتحقق بزيادة حصة دولة أخري من دول النهر. وأما النهج الثاني, فانه يعني إدراك أي دولة من دول نهر النيل, التي تتمتع بوفرة موارد المياه العذبة, أنها كاسبة بالضرورة من أي عمل يستهدف الاستغلال المشترك للموارد المهدرة من مياه نهر النيل, والأهم أنها كاسبة حتما من تنمية الموارد المائية غير المستغلة في حوض النيل, ومن ثم زيادة حصص جميع دول النهر والحوض. ولا جدال في صحة المثل الشعبي المصري الذي يقول الغرق ولا الشرق; لأن الغرق, إن أهلك المحصول والحياة في الأراضي المنخفضة والعادية المنسوب, قد تنجو منه الأراضي العالية, وبما يترك من غشاء غريني كثيف كفيل بمحصول مضاعف في العام التالي. وأما الشرق فمعناه الوحيد هلاك الزراعة كلها هذا العام, دونما تعويض في العام التالي! لكن هذا المثل ليس صحيحا علي إطلاقه بالنسبة لمصر بعد بناء السد العالي, وليس صحيحا علي الإطلاق بالنسبة لجنوب السودان وبلدان المنابع! وأذكر هنا ما قاله أحد ضيوفي ببرنامج دائرة الحوار, وكان ممثلا الحركة الشعبية في جنوب السودان, حين استنكر مخاوف مصر من التأثير السلبي علي حصتها من مياه النيل في حالة إنفصال السودان, حيث أعلن بلهجة نوبية محببة:' يا زول, لا تخافوا من نقص الموية, نحن لا نريد الموية, خذوها! نحن نغرق فيها وتسبب لنا الأمراض! ومن هنا جاء مشروع قناة جونجلي لإضافة أربعة مليارات متر مكعب من المياه بتحرير مجري النيل من العوائق التي تحرم مصر من جزء من موارده وتغرق جنوب السودان في مستنقعاته, وهو المشروع الذي يفيد كلا من السودان بجنوبه وشماله ومصر, وإن تعثرت مرحلته الثانية بالحرب الأهلية المريرة والآثمة بين ناس الشمال وأهل الجنوب ثم الإقتتال بين ناس الجنوب والجنوب! ومرة أخري وجب استدعاء ما أورده جمال حمدان من أنه في بداية العصر العربي في مصر, كان منسوب16 ذراعا لارتفاع الفيضان عند المقياس هو الحد بين الكفاية والحاجة حتي سميت ملائكة الموت فإذا ما أرتفع إلي18 ذراعا كان فيضانا سلطانيا وعم الرخاء. فإذا ماتعدي علامة العشرين كان الاستبحار أي الغرق للإرض والزرع. وقد يصل إلي24 ذراعا فتكون اللجة الكبري أي الطوفان الكاسح, وهذا يعني غالبا الطاعون أي الوباء حيث يتحول الوداي إلي مستنقع ملاري كبير. أما إذا هبط النهر عن الحد الفاصل16 ذراعا, فهي الشدة التي قد تصل إلي حد المجاعة ولقد كانت المجاعة ملمحا تعسا يبرز في تاريخ مصر الوسيط بشكل ملح. وسجل من هذه المجاعات من القرن14 إلي القرن18 نحو50 وباء ومجاعة, و أي بمعدل مرة كل11 سنة. ورب دفعة متصلة من سني القحط تتوالي بلا فاصل أو انقطاع كالسبع العجاف فتقطع دورة الحياة قطعا, إذ تتزامن المجاعة والموقت وفناء السكان. والواقع أن أدني هزة في موارد المياه والزراعة ما أسرع ما كانت تترك أثرها في السكان برجة تخريبية وتناقص نكبائي خطير! ولعل هذا يفسر لماذا كانت العرب تقول: إن مصر أسرع الأرض خرابا كما كتب المقريزي في الجزء الأول من خططه, ولماذا كان هذا الإقليم إذا أقبل فلا تسأل عن خصبه, وإذا أجدب فنعوذ بالله من قحطه! كما يقول المقدسي في أحسن التقاسيم. وباختصار, في حالتنا, فان الاستبحار في فيض مياه بلدان المنابع تقابله المجاعة من شح مياه مصر فضلا عن شمال وشرق وغرب السودان ومناطق أخري ببلدان المنابع. وكما شرحت في مقالات سابقة: إن مصر المعاصرة قد أدركت صعوبة أو استحالة خطر منع تدفق مياه النيل الأزرق من أثيوبيا الي مصر فلا جدال أن الأمن المائي لمصر توفره حقوق مصر الطبيعية والتوازن الطبيعي بين الموارد والحاجات المائية, وكفاية المياه الطبيعية لكل بلدان حوض النيل, وضمانات الطبيعة لمصر, إضافة الي بناء السد العالي. لكنه لا يمكن لمصر تجاهل تهديد أمن مصر المائي بذريعة أكذوبة وخرافة الحقوق المغتصبة حين تشرع في وجه الحقوق المكتسبة وخاصة بتهديد تدفق مياه النيل الأبيض, الذي يمثل مورد مياه النيل الوحيد في غير شهور الفيضان الأثيوبي. و ينبغي ألا تفتر عزيمة مصر علي تعزيز أمنها القومي والإنساني وحماية أساس وجودها بمضاعفة النفع المتبادل بينها وشقيقاتها من بلدان حوض النيل, ليس فقط بمجابهة لخطر نقص المياه في السنوات العجاف, بل أيضا بتنمية الموارد المائية المتاحة لها جميعا بمضاعفة الاستغلال المشترك لوفرة المياه في السنوات السمان, وهو ما كانت استهدفته مبادرة حوض النيل. والواقع أن نهج الكسب المتبادل ليس غريبا علي مصر وخاصة في عهد مبارك, حيث كان هذا النهج روح مبادرة حوض النيل, وقد غلبت الحكمة مصر رغم عجلة الأشقاء الذين وقعوا الاتفاقية الإطارية الأخيرة منفردين, وسيبقي نهج الكسب المتبادل سبيل مصر, تؤكده إمكانية إعادة توزيع ثراء الوفرة المائية المطلقة في حوض النيل وإمكانية تنمية موارد نهر النيل ذاته وتقليص الفقر المائي النسبي الذي يعانيه سكان مصبه وبعض ضفافه! [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم