ترددت كثيرا قبل ان ابدأ في كتابة هذا المقال, واسباب التردد كثيرة ومتعددة, بل ومعقدة في كثير من الاحيان, أولها انني كنت حتي الأمس القريب ولفترة تجاوزت الاثني عشر عاما وزيرا للموارد المائية والري في الحكومة المصرية, وقد دأب العرف وتواترت تقاليد الممارسة السياسية في وطننا الحبيب علي عدم ملاءمة خوض وزير سابق في أمور وموضوعات ذات صلة مباشرة بمجال عمل الوزارة التي كان مسئولا عنها, وكي لا يساء فهم تلك الخطوة علي انها تستهدف تحقيق مصلحة شخصية هنا أو هناك, أو محاولة للصيد في الماء العكر, اما السبب الثاني لترددي, فهو ذلك الصراع الشديد بداخلي, بين فيضان جارف يدفعني من واقع خبرة عمل تجاوزت الخمسين عاما مع ملف مياه النيل نحو الادلاء بدلوي في ذلك الحوار الوطني القائم بشأن مستقبل أمن مصر المائي, وعلاقاتنا مع دول حوض النيل في ضوء ازمة المفاوضات الحالية, وبين ذلك السد المنيع الاشبه بالسد العالي, الذي يتحدي فيضان النهر ويطالبني باستمرار الصمت, مستذكرا المقولة الشهيرة: اذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب. ولقد جاء قراري النهائي بالتحدث انطلاقا من شعور عام بالمسئولية والواجب الوطني, واحسب ان ما نشر علي صفحات الجرائد وما تناولته وسائل الاعلام المصرية علي مدي الايام الماضية منذ الاجتماع الوزاري الأخير لدول حوض النيل في شرم الشيخ كان محفزا رئيسيا لتشجيعي علي الادلاء بدلوي في هذا الحوار الوطني الخالص, الذي ان دل علي شيء فإنما يدل علي ادراك كامل وفهم عميق لدي الشعب المصري بشتي توجهاته وانتماءاته لخطورة وحيوية قضية مياه النيل, وهو قلق مشروع لدي الجميع ينبغي التعامل معه بكل الجدية والاحترام, دون تهوين أو تهويل, وذلك من خلال استعراض شامل وأمين لتفاصيل مفاوضات شاقة دامت لأكثر من عشر سنوات, وتحليل علمي دقيق للموقف المائي لمصر وطبيعة المخاطر وحجمها الحقيقي وبدائل التحرك المستقبلية, واخيرا قراءة دقيقة للأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة حوض النيل, وتأثير ذلك علي تفاعلاتها الداخلية والاقليمية والدولية خلال السنوات المقبلة.. من هنا فسوف احاول من خلال سلسلة من المقالات ان اجيب عن بعض التساؤلات المطروحة قدر الامكان, وان اتعامل بكل جدية واحترام مع اسباب القلق المشروع, الذي اشرت إليه, لا لإثباتها أو نفيها, وانما لضمان وضعها في حجمها الطبيعي والحقيقي.. فشتان بين القلق المشروع والقلق المبالغ فيه.. وبين القلق المبني علي اسس علمية وتحليل دقيق للاوضاع, وقلق مبالغ فيه سواء عن عمد أو غير عمد. وانطلاقا من تلك الارضية استسمح القاريء الكريم في ان اخصص مقالي الأول لاستعراض الموقف المائي الحالي لمصر استنادا بفضل الله إلي خبرتي المتواضعة, واحسب ان عملي الحالي كرئيس للمجلس العربي للمياه, والرئيس الشرفي الدائم للمجلس العالمي للمياه, وعضو اللجنة الاستشارية لسكرتير عام الأممالمتحدة للمياه والصرف, ورئيس اللجنة الدولية لتغير المناخ... وغير ذلك الكثير يمكنني من عرض تحليل دقيق للموقف المائي المصري, والوقوف علي الحجم الحقيقي للمخاطر والتحديات, ثم طرح رؤية خاصة حول بدائل التحرك المستقبلية لضمان استمرار الحفاظ علي الأمن المائي لمصر, بل وزيادة حصة مصر من مياه النيل للوفاء بمتطلبات التنمية والاحتياجات المتزايدة من المياه. اما المقال الثاني فسوف احاول فيه جاهدا استعراض طبيعة العلاقة مع دول حوض النيل من منظور مائي, بدءا من بدايات الستينيات وحتي اطلاق مصر لمبادرة حوض النيل في منتصف التسعينيات, ولعل الهدف الحقيقي من وراء ذلك, هو لفت انتباه القاريء الكريم إلي حقيقة ينساها البعض في احيان كثيرة او ربما يتناساها, وهي ان مصر كانت دائما هي الطرف المبادر بمد يد التعاون والتواصل مع باقي دول الحوض, وكانت قوة الدفع الحقيقية وراء استمرار مبادرة حوض النيل طوال تلك السنوات متحلية بأقصي درجات الصبر والمثابرة وضبط النفس بل ولم تبخل ليوم واحد في توفير الموارد المطلوبة رغم التحديات الاقتصادية الكبيرة, بهدف تحقيق حلم مشروع بأن يصبح حوض نهر النيل اساسا للتعاون والمنفعة المشتركة, وليس مصدرا محتملا للصراع والشقاق. وفي المقال الثالث والأخير سوف اتناول حقيقة ما تم خلال مفاوضات السنوات العشر الماضية بين دول حوض النيل, كي يكون القاريء علي بينة كاملة بالاطار العام الذي حكم العملية التفاوضية منذ بدايتها, وكيف تم بناء الموقف التفاوضي المصري, بدءا من تحديد العناصر الفنية والسياسية والقانونية, ومرورا بتشكيل خلية العمل الوطنية المسئولة عن ادارة الملف, والتي تم تكوينها من جميع الجهات المعنية بالملف في الحكومة المصرية بالاضافة إلي خبراء قانونيين مشهود لهم بالخبرة العريضة في موضوع الانهار الدولية والقانون الدولي, انتقالا إلي التشكيل الفعلي للوفد التفاوضي ثم تحديد عناصر الدعم للمفاوض المصري وانتهاء بأسلوب متابعة العملية التفاوضية علي مستوي الحكومة المصرية. خطة استراتيجية للإدارة المتكاملة للموارد المائية من هنا وانطلاقا من تلك الارضية, أود أن أعرض مع القاريء الكريم في عجالة مجموعة من الحقائق المهمة المرتبطة بموضوع مقال اليوم: ان التخطيط السليم لخطط التنمية الزراعية والصناعية في اي دولة من الدول, يرتبط ارتباطا وثيقا ضمن امور اخري بمعرفة شاملة ودقيقة لحجم المياه المتوافرة في هذه الدولة, وجودتها, واقتصادات استخدامها, والبدائل المتاحة اليوم وغدا لزيادة تلك الموارد المائية. وبشكل عام, فإن الموارد المائية المتجددة المتاحة في دولة كمصر محدودة وليست لا نهائية, وهي تتمثل في مياه النيل التي حددت اتفاقية1959 مع السودان نصيب مصر منها ب55.5 مليار متر مكعب في العام, وهي تمثل نحو95% من موارد مصر المائية, ثم المياه الجوفية, وبعضها متجدد يمكن الاستفادة منه بقدر من الاطمئنان والبعض غير متجدد ينبغي استخدامه بحرص شديد ووفقا لخطة مدروسة, ثم مياه الأمطار والسيول ثم مياه البحر المحلاة, وأخيرا المياه التي يعاد استخدامها من مياه الصرف الزراعي ومياه الصرف الصحي والصناعي المعالج. 2 إن كل مصدر من تلك المصادر تنطوي الاستفادة منه علي مجموعة من الفرص والتحديات, والتحليل العلمي والتخطيط الاستراتيجي لكيفية الاستفادة من تلك الفرص ومواجهة التحديات, يتطلب دائما خطة متكاملة تتفق عليها جميع أجهزة الدولة وليست وزارة بعينها لاسيما أن استخدامات واستهلاكات تلك الموارد المائية تتم من قبل جهات عديدة ولأغراض مختلفة كالزراعة, والصناعة, والإسكان, والشرب, والملاحة, وتوليد الطاقة وغيرها من الأغراض التنموية المختلفة. ومن هذا المنطلق, كان القرار الذي اتخذته وزارة الموارد المائية والري الذي انتهي عام2004 بإعداد خطة استراتيجية للإدارة المتكاملة للموارد المائية شاركت فيها جميع اجهزة الدولة المعنية لإيجاد التوازن المطلوب بين الاحتياجات والموارد المائية حتي عام2017, وتقدر تكلفتها الاستثمارية بنحو145 مليار جنيه وتكلفتها التشغيلية نحو45 مليار جنيه, تم تقسيمها بين أجهزة الدولة المعنية للبدء في التنفيذ, وبلغ نصيب وزارة الإسكان منها وحدها نحو60%, ووزارة الموارد المائية والري30%, وشكلت لجنة وزارية لمتابعة تنفيذ تلك الخطة الطموح. 3 إذا ما حاولنا التطرق في عجالة إلي موقف كل مصدر من مصادر مصر المائية, فسوف نجد ان المصدر الأول يرتبط بمياه النيل التي ترتبط استخداماتنا منها بحصة ثابتة تقدر ب55.5 مليار متر مكعب سنويا وفقا لاتفاقية1959 فعلي الرغم من زيادة عدد سكان مصر من20 مليون نسمة عام1959, إلي80 مليونا عام2010, فإن تلك الحصة ظلت ثابتة طوال تلك السنوات. وهو تحد جسيم بطبيعة الحال ولا جدال في ذلك, الا أننا لايمكن ان نتعامل معه بمعزل عن مجموعة من الفرص التي يرتبط بعضها بإمكانية زيادة حصة مصر من خلال مشروعات مشتركة مع باقي دول حوض النيل, وأهمها السودان, للاستفادة من فواقد النهر هنا او هناك, والبعض الآخر يرتبط بأسلوب تعاملنا مع حصتنا المائية, ومدي قدرة الدولة والمجتمع علي العمل معا من أجل الاستخدام والتوزيع الأمثل للموارد المائية, واستخدام احدث التقنيات في نظم الري الحديث والإدارة المتكاملة للموارد ومشاركة مستخدمي المياه في تطوير الترع والقنوات والمصارف لضمان تقليل الفواقد, بالإضافة الي سياسة صارمة وجادة لمواجهة تلوث مياه النيل وترشيد الاستهلاك في الري وفي الاستخدامات المنزلية والصناعية. وأود في هذا الإطار أن ألفت نظر القارئ الي حقيقة ان مشروع الاتفاق الجاري التفاوض عليه بين دول الحوض لا يتناول من قريب او بعيد مسألة تقسيم مياه النيل بين دول الحوض, وانما يضع الاسس والقواعد الحاكمة لهذه العملية ليتم اخذها في عين الاعتبار في مرحلة لاحقة من خلال مفوضية مياه النيل التي سيتم انشاؤها. تقسيم مياه النيل غير وارد في المفاوضات الحالية 4 المصدر الآخر يتمثل في المياه الجوفية. وهو مصدر, أتصور انه ينطوي علي الكثير من الفرص والطاقات الكامنة, رغم عدم خلوه بالطبع من بعض التحديات. ومن المهم ان نلفت نظر القارئ الكريم إلي أن الخزانات الجوفية في مصر, بعضها تتجدد مياهه لكونها تأتي من مصادر متجددة كرشح النهر والترع والأراضي الزراعية, وتستخدم مصر حاليا نحو6 مليارات متر مكعب من هذه المياه سنويا, ويمكن زيادتها الي10 مليارات لفترة قادمة لحين استكمال برامج تطوير الري وتقليل الفواقد من الرشح فهذه المياه الجوفية هي بطبيعتها تدوير لمياه النيل. أما النوع الثاني من المياه الجوفية فهو المياه المتوافرة في الصحاري المصرية والوادي الجديد وشرق العوينات, وهي مياه متوافرة بكميات كبيرة, الا انه ينبغي الحيطة الشديدة في استخدامها لكونها غير متجددة, وغالبا مايكون استخدامها لمدة محدودة. وتشير التقديرات العلمية والدارسات الي ان حد الاستخدام الآمن لتلك المياه في مناطق كالوادي الجديد مثلا يكفي لزراعة نحو نصف مليون فدان, اما في منطقة شرق العوينات فالمياه المتوافرة تكفي لزراعة نحو200 الف فدان, مع السماح بانخفاض في مناسيب المياه لايزيد علي100 متر خلال300 سنة في كل حالة. 5 وفيما يتعلق بمياه الأمطار والسيول, فإن كمياتها لاتتعدي ال2 مليار متر مكعب سنويا, وهي ايضا تعد مصدرا إضافيا يمكن الارتكاز عليه لتعزيز موارد مصر المائية, أخذا في الاعتبار ان التوسع في استخدامها يتطلب انشاءات صناعية كالسدود والخزانات الأرضية وسدود الاعاقة. وتأتي بعد ذلك مياه البحر المحلاة, والتي تقتصر استخداماتها الحالية علي بعض المناطق الساحلية للأغراض السياحية بالأساس. حججنا القانونية والفنية في التفاوض راسخة 6 يجب ألا يفوتنا ونحن نستعرض مصادر مصر المائية, ان ندرك جيدا ان المفاوض المصري منذ اليوم الاول لإطلاق العملية التفاوضية مع باقي دول حوض النيل, كان علي وعي تام بحقيقة وضع مصر المائي, ولم تنضب حججه القانونية والفنية يوما لتأكيد صحة وسلامة موقفه التفاوضي المتمسك بضرورة اعتراف واحترام باقي دول الحوض لاستخدامات وحقوق مصر المائية. فحوض نهر النيل تتساقط عليه امطار تقدر ب1660 مليار متر مكعب سنويا, وهي تكفي لسد احتياجات جميع دول الحوض إذا ما تكاتفت وتعاونت مع بعضها البعض, أما اذا قررت العمل بمفردها, ولم تتلق اليد الممدودة لها بالتعاون والإخاء, فسوف تظل علي وضعها الحالي. ولايفوتني هنا ان اشير, وبكل فخر, الي ان الشعب المصري قد عرف منذ اليوم الاول قيمة المياه, وعرف انها مصدر الحياة وأساس ديمومتها, ومن هنا كانت ولاتزال, مصر تعد من أكفأ الدول علي مستوي العالم في إعادة استخدام المياه وتدويرها لأكثر من مرة وأكثر من غرض, وهو مايوفر لدينا اكثر من6 مليارات متر مكعب اضافية من المياه سنويا. 7 في تقديري ايضا ان التحدي الاكبر الذي تواجهه مصر خلال المرحلة المقبلة يتمثل في مخاطر تلوث المياه. ولعل سلوكيات المجتمع بجميع فئاته تجعل من مواجهة هذا التحدي امرا ليس بالسهل. وهو امر يتطلب المزيد من العمل والجهد من اجل تعديل اللوائح والقوانين القائمة. 8 علي الجانب الآخر ونحن نستعرض حقيقة الوضع المائي لمصر, وسبل تنمية مواردنا المائية, ينبغي ان تحرص مصر دائما علي تبني احدث المناهج العلمية والاتجاهات الدولية الجديدة في تعاملها مع قضية ندرة المياه. فعالم اليوم لايتحدث فقط عن ادارة العرضSupplymanagement, إنما يتحدث أيضا عن إدارة الطلبDemandManagement, وهناك برامج عديدة تتناول هذا الموضوع ربما لايتسع المقام لذكرها تفصيلا الآن. ولا شك ان ذلك يرتبط ايضا بقضايا تغير المناخ, وتحول قضية ندرة المياه الي قضية عالمية تقتضي تكاتف الجهود وتنسيق السياسات المشتركة علي مستوي العالم لحماية كوكب الأرض بأكمله خلال السنوات المقبلة. أما الآن, وبعد استعراض حقيقة الوضع المائي لمصر مابين التحديات والفرص, فأتصور ان تلك المقدمة كانت اساسية وضرورية لفهم اكثر عمقا للوضع المائي لمصر, وكي يتم تقييم تجربة المفاوضات مع دول حوض النيل علي اساس علمي ومعلومات دقيقة, دون تهوين او تهويل كما اوضحنا من البداية, ومع احترام كامل لقلق مشروع نريد ان نتعامل معه بكل الجدية اللازمة وان نسعي لإزالة اسبابه متي كان ذلك ممكنا. وانطلاقا من ذلك اتصور ان هناك بعض الأسئلة التي ستفرض نفسها تلقائيا الآن وينتظر القارئ اجابات عنها. أولها: لماذا كان اللجوء اذن الي خيار إطلاق مبادرة حوض النيل؟ وهل كان التوقيع علي الاتفاقية الإطارية امرا ضروريا ولا غني عنه لزيادة حصة مصر المائية ام انه لايعدو ان يكون مجرد استكمال شكلي للإطار التعاوني, وبديل ضمن بدائل اخري كثيرة تستهدف تعظيم الموارد المائية لمصر؟ وما حدود التأثير الحقيقية لدول الحوض علي امن مصر المائي؟ وأخيرا.. ماذا سيكون موقف المؤسسات والدول المانحة في حالة التوقيع المنفرد لبعض الدول علي الاتفاقية دون انضمام مصر والسودان, وهل ستتمكن تلك الدول من الحصول علي التمويل اللازم لإقامة مشروعات مائية تضر بالتبعية بالأمن المائي المصري؟ وكم تحتاج دول حوض النيل من وقت وموارد للقيام بذلك مقارنة ببدائل اخري أكثر اقتصادية وسهولة تمكنها من اقامة مشروعاتها التنموية المستهدفة دون الاضرار بمصر؟ أملي ان اتمكن من الإجابة عن تلك الاسئلة المهمة والمشروعة في مقالي المقبل قبل الانتقال في مقالي الاخير لاستعراض ما تم خلال مفاوضات السنوات العشر الماضية, وتوضيح الركائز والمنطلقات التي تأسس عليها الموقف التفاوضي المصري, وبعض خبايا وأسرار تلك العملية التي دامت لأكثر من عشر سنوات.