«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
أخطار علي نهر النيل‏!!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 05 - 2010

سواء كانت مصر هبة النيل‏,‏ أو أن مصر هي هبة المصريين‏,‏ الذين نجحوا في إقامة حضارة كبري علي نهر النيل‏,‏ فإن هناك أخطارا باتت حالة علي النهر التاريخي بعد أزمان كثيرة من الاطمئنان. علي أن مياها كثيرة سوف تمضي بلا انقطاع من المنبع إلي المصب‏.‏ وببساطة استيقظنا ذات صباح‏,‏ يقول البعض إنه منذ عام‏,‏ والبعض الآخر يقول إنه منذ أعوام‏,‏ علي أن ما تم الاستقرار عليه طوال التاريخ لم يبق علي ما كان‏,‏ وأن هناك من يريد أن يغير شرائع وقوانين ظلت مستقرة منذ عقود طويلة عبر أعوام‏1902‏ و‏1929‏ و‏1959‏ لكي تنظم ما جري عليه العرف واستقرت فيه التقاليد قبل عدة آلاف من السنين‏.‏
كانت المناسبة هي توقيع اتفاقية إطارية لتنظيم التعاون ما بين دول حوض النهر‏,‏ فما كان من دول المنبع إلا أن أصرت علي إضافة فقرة تقول بحقها في إقامة مشروعات علي نهر النيل دون موافقة دول المصب‏,‏ ودون مراعاة بالضرورة لما استقرت عليه الحقوق التاريخية‏.‏ وكانت هذه الفقرة كافية لكي تمنع اتفاقية التعاون من المضي في طريقها‏,‏ وعلي العكس أوجدت حالة من التساؤل حول الأسباب والدوافع التي قادتنا إلي نقطة كان‏'‏ التعاون‏'‏ فيها متوقعا‏,‏ لكي يتحول إلي لحظة من التوتر والتشاحن‏.‏
من ناحيتنا جري التعامل مع الموقف بمنهجين إضافيين لما اعتدنا الحديث عنه من حقوق تاريخية‏:‏ أولهما أن القضية قانونية من أولها إلي آخرها‏,‏ فتم استدعاء الاتفاقيات والمعاهدات‏,‏ والبحث في الكتب عن المعاهدات العالمية الخاصة بالحقوق في الأنهار والبحار‏,‏ والمراجعة والتأكيد علي المواد والحقوق الواردة في الاتفاقيات‏.‏ ومثل ذلك يدعمه بشدة أن مدرسة وزارة الخارجية المصرية مولعة بالقانون الدولي‏,‏ ولديها‏,‏ أو لدي بعض دبلوماسييها‏,‏ اعتقاد بأن العالم مثله مثل الدول يحكمه قانون وتنظمه شرائع‏,‏ ويجدون لذة بالغة في مقارعة الحجة القانونية بالأخري‏.‏
ولسبب ما بعد أن شبت قضية مياه النيل‏,‏ وجرت مع المياه إعادة التذكير بالحجج والمعاهدات من قبل كتيبة من فقهاء القانون والدبلوماسيين تذكرت تلك المباريات الطويلة التي جرت ذات يوم لتفسير المادة تلو المادة من القرار‏242‏ الصادر عن مجلس الأمن في نوفمبر‏1967‏ وظل حاكما للمفاوضات العربية الإسرائيلية طوال العقود الماضية‏.‏ ولم تكن المشكلة في المنهج القانوني الذي يثبت الحقوق بقدر ما كانت في أن المنهج جعل المسألة من الوضوح والعدالة بحيث يصعب تفهم تلك الحالة من الانقلاب التي باتت تعيش عليها دول حوض النيل‏.‏ وعندما ظهر أن الوضوح والعدالة غير كافيين لحسم القضية ووضعها في مسارها الذي يعطي المصالح لأهلها قفزنا فورا لمنهج آخر بدا مناقضا للمنهج الأول حيث الشرع والشرعية والقانون‏.‏
هنا كان المنهج الاقتصادي‏,‏ أو ما يعبر عنه بالمصالح الاقتصادية الذي بدا كما لو كان طريقا سريعا للخروج بسرعة من طريق مسدود مع دول حوض النيل‏,‏ حيث يمكن إلقاء اللوم علي غياب التفاعل الاقتصادي مع الدول المعنية‏.‏ وبسرعة كانت صفقة اللحوم مع إثيوبيا أو الصفقات المشابهة‏,‏ التي بدا وكأن غيابها هو السبب في الحالة الجديدة التي دفعت زملاء وأشقاء النهر إلي أن يصروا علي قلب أوضاع مستقرة منذ زمن بعيد‏,‏ أو كان وجودها يمكن أن يمنع وقوع ذلك‏.‏ وجري المنطق علي أنه لو كان لدينا ما يكفي من الصفقات والمعونات والاهتمام بدول حوض النيل لما جري الذي جري‏,‏ وكانت العلاقات يمكن أن تصبح سمنا علي عسل أو نوعا من السكر والزبد حسب ما يحصل عليه الجميع من فوائد وعوائد‏.‏
لم يكن بعيدا عن هذه الحجج‏,‏ والصفقات‏,‏ منهج يجري في العلاقات الدولية يقول إنه كلما تكاثفت علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول فإنه لا يصير من تقاليدها الصدام ونشوب الأزمات‏,‏ وإنما يصبح طريقها إلي التعامل مع ما تختلف فيه هو التوافق والمفاوضات والصبر حتي التوصل إلي اتفاق‏.‏ وبقدر ما كان اللوم موجها في المنهج التاريخي‏,‏ والآخر القانوني‏,‏ إلي الآخرين من دول حوض النيل‏,‏ فإن المنهج الاقتصادي كان ممتلئا حتي آخره بتقريع الذات ونقدها‏,‏ لأنها لم تقم بما كان واجبا القيام به وهو عقد الصفقات السخية مع الدول الشقيقة‏.‏
والحقيقة أن المشكلة لم تكن قائمة بالنسبة لهذه المناهج علي أهميتها البالغة إلا في عدم كفاية أي منها لمناسبة مقتضي الحال الذي بات معقدا للغاية خاصة بعد اجتماعات متتالية في الإسكندرية وشرم الشيخ وعواصم دول إفريقية متعددة‏.‏ ولذلك‏,‏ وخوفا من عدم الاقتناع باكتمال المناهج بدا أن منهجا آخر يحل كل القضايا يمكنه أن يحل هذه القضية هي الأخري وهو إلقاء اللوم علي إسرائيل والولايات المتحدة أو دول خارجية غامضة وكفي‏.‏
والنظرية هنا تقوم علي أن في مصر من القوة الحقيقية أو الكامنة ما يكفي لكي يثير الرعب في قلوب دول عظمي وكبري‏,‏ بحيث إنها تريد إرباك وإشغال مصر بقضية حيوية بحيث لا تتفرغ لبناء قوتها التي يخشي منها‏.‏ وهنا لا توجد حاجة لإثبات مدي ضلوع إسرائيل في تقليب دول النهر علي مصر لكي تضغط عليها وتمنعها من المساندة الكاملة للشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه المشروعة‏.‏ ومن المدهش أن كثرة ممن يتبنون وجهة النظر هذه ينتمون إلي مدرسة متكاملة تري أن مصر لا تفعل الكثير للقضية الفلسطينية من الأصل‏;‏ ولكن‏,‏ وعلي أي حال‏,‏ متي كان المنطق مستقيما دائما في مصر المحروسة؟
لاحظ هنا أنه أيا كان المنطق المطروح تاريخيا أو قانونيا أو اقتصاديا أو خارجيا فإنه يوجد غياب كامل للطرف الآخر الذي لا يعود له تاريخ أو حجج قانونية أو حتي وجهة نظر في المصالح الاقتصادية المشتركة أو مدي علاقته بالدول الغربية أو الشرقية المختلفة‏.‏ ولا كان معلوما أبدا كيف تطورت هذه الدول في التاريخ المعاصر من الناحية السياسية والاقتصادية والسكانية حتي باتت هويات تظهر أحيانا معادية للمنطق والحق‏,‏ ولا يوجد من ناحيتها مبادرات اقتصادية تذكر أو تقييم للأوضاع الدولية والإقليمية يشكل تحالفاتها العالمية والإقليمية‏.‏ وبصراحة يبدو العالم الذي وضع القانون الدولي الذي نتمسك به‏,‏ وأعطي المنح والمعونات والقروض التي نتمني القيام بها‏,‏ متهما مرة بالتواطؤ في مؤامرة من نوع ما‏,‏ ومرة أخري بيده الحل لأن شرط عدم جواز تقديم الأموال قروضا أو معونات لمشروعات تقام علي نهر النيل‏,‏ أو أي نهر آخر‏,‏ يرتبط بإرادة وأموال هذه الدول‏.‏
ووسط ذلك كله فإن أحدا لم يبادر لكي يقدم تقييما متكاملا لسياستنا الخارجية‏,‏ ويبحث بشجاعة عن أسباب المفاجأة التي جاءت علي رؤوسنا فجأة‏,‏ والتي محورها وجود حالة من عدم التوازن في سياستنا الخارجية لصالح المشرق العربي سرعان ما ظهرت آثارها علي مصالحنا الحيوية في الجنوب حيث وادي النيل كله‏,‏ بل القارة الإفريقية كلها‏.‏ ولم يكن ذلك لغياب في التحذير‏,‏ بل كان لثقة مبالغ فيها بالقدرة علي الحركة بنفس الكفاءة علي محاور متعددة دون حساب لعلاقة القدرات الوطنية بالأهداف التي نسعي إلي تحقيقها‏;‏ وفي أحيان كثيرة كانت لغة القوميين العرب‏,‏ وكوارث المشرق التي لاتنتهي‏,‏ كلها تضغط علي أجهزة صناعة السياسة الخارجية كلها إلي الدرجة التي تجد نفسها تدفع بمواردها المحدودة‏,‏ وكفاءاتها السياسية في اتجاه المشرق‏.‏
وبصراحة فإن الأمر كله يحتاج إلي إعادة تقييم ومراجعة لكل سياساتنا السابقة تجاه مجموعة دول حوض النيل وموقعها من مجمل سياستنا الخارجية‏,‏ لأن الأخطار علي هذه الجبهة تبدأ من حدودنا الجنوبية مباشرة حيث مستقبل السودان‏,‏ ومن بعده تمتد جبهة استراتيجية عريضة ممتدة من حدود تشاد غربا حتي مضيق باب المندب والبحر الأحمر والمحيط الهندي غربا‏,‏ ومن الحدود المصرية السودانية حتي منابع النيل والبحيرات العظمي جنوبا‏.‏
هذه المراجعة تحتاج أفضل العقول وأنضجها‏,‏ سواء تلك التي تزخر بها أجهزة صنع السياسات الخارجية والأمن القومي‏,‏ أو تلك التي توجد في مدرسة الري المصرية أو في مدارس أخري ذات صلة‏,‏ ولا بأس في كل الأوقات من التشاور والبحث مع الحلفاء والأصدقاء لكي نعرف التقييم الحقيقي لما يثار ويطرح مع آخرين من خارجنا‏,‏ لأن كثرة الصياح الداخلي كثيرا ما يعطي نتائج مضللة‏.‏ فخلال الفترة الماضية جري تضليلنا مرتين‏:‏ مرة بأن دول حوض النيل لا تستطيع توقيع اتفاق دون موافقة مصر‏,‏ ومرة بأن الاتحاد الدولي لكرة القدم سوف يحكم لصالحنا في مسألة النزاع مع الجزائر حول ما جري في المباريات التمهيدية لكأس العالم‏.‏ وفي المرتين لم تكن النتيجة مرضية‏,‏ وجري توقيع اتفاق من نوع أو آخر في حالة النيل‏,‏ وتم توقيع العقوبات علينا في حالة كرة القدم‏,‏ وبات علينا أن نبحث الأمر ليس فقط مع الآخرين‏,‏ ولكن مع أنفسنا قبل كل الأطراف الأخري لكي نعرف أسباب ما حدث‏.‏
إن نقطة البداية كما ذكرنا أن نعرف عن الآخرين بعضا من المعلومات الضرورية‏,‏ حيث لا توجد دراية كافية بشأن الأوضاع الداخلية للدول التسع المطلة علي حوض النيل والتي تشهد كلها بمجموعة من الخصائص التي لابد من وضعها في الاعتبار عند رسم إستراتيجية للتعامل ليس فقط مع قضية المياه‏,‏ بل للنظر في شراكة كبري للتقدم والتنمية‏.‏ فالمسألة هي أننا إزاء مجموعة من الدول الفقيرة للغاية‏,‏ التي رغم فقرها الشديد فإنها تواجه زيادة سكانية كبيرة‏,‏ حتي وصل العدد في أثيوبيا أهم دول الحوض ومصدر‏85%‏ من إجمالي المياه القادمة إلي مصر إلي أكثر من‏85‏ مليون نسمة تضعها في المكانة الثانية بعد نيجيريا من حيث عدد السكان في القارة الأفريقية‏.‏ وإذا أضفنا إلي ذلك التغيرات المناخية‏,‏ والنزوح السكاني من مناطق الجفاف التي كانت تعتمد علي المطر إلي المناطق المروية لواجهنا إلحاحا علي فهم جديد للقضية يأخذ احتياجاتنا واحتياجات الآخرين في الحسبان‏.‏
وباختصار هناك ضرورة أن تتبلور رؤية مصرية جديدة إزاء المسألة النيلية‏,‏ بحيث تقوم علي ترسيخ أسس جديدة للعلاقات بين دولتي الممر والمصب‏(‏ مصر والسودان‏)‏ ودول المنبع‏,‏ لا تنحصر في تقسيم المياه‏,‏ بل تشمل مشروعات تنموية أخري من خلال زيادة حجم التجارة والاستثمارات المتبادلة‏,‏ والحرص علي عدم تسييس مسألة المياه‏.‏ بعبارة أخري يجب التأكيد علي عدم اختزال العلاقات مع دول الحوض في قضية تقسيم مياه النهر‏,‏ أو تبني مبدأ المشاركة بدلا من الشراكة في التعامل مع هذه الدول‏,‏ بشكل يقلص من الأهمية والزخم اللذين تحظي بهما العلاقات مع هذه الدول والتي يمكن أن تنتج تداعيات إيجابية عديدة علي المصالح الإستراتيجية والأمن القومي المصري‏.‏
والواقع أن الحجة المصرية ضمن هذا الإطار سوف تكون أقوي مما كانت وهي تصاغ في إطار من المواجهة السياسية أو القانونية‏,‏ أو في مجال المن والمنح والمنع حيث تشير التقديرات إلي أن حوالي‏1650‏ مليار متر مكعب من مياه الأمطار تسقط سنويا علي دول المنبع لا يصل لمصر منها إلا‏55.5‏ مليار متر مكعب فقط‏,‏ وهي الحصة التاريخية التي تحصل عليها مصر منذ عام‏1959,‏ ويزداد التمسك المصري بهذه الحصة مع وجود توقعات بأن مصر ربما تواجه شحا مائيا‏,‏ حيث يعيش معظم سكان مصر علي مياه النيل‏.‏
وفي هذا السياق‏,‏ توقع تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء في أغسطس‏2009,‏ حدوث عجز في الموارد المائية المصرية بحلول عام‏2017,‏ إذ من المرجح أن تصل إجمالي كمية الموارد المائية المتاحة إلي حوالي‏71.4‏ مليار متر مكعب مقابل الاحتياجات المائية التي يصل في العام نفسه إلي‏86.2‏ مليار متر مكعب‏.‏ ورجح التقرير أن يتراجع متوسط نصيب الفرد في مصر من المياه خلال الأعوام المقبلة‏,‏ حيث يصل إلي‏582‏ مترا مكعبا سنويا عام‏2025‏ مقابل‏860‏ مترا مكعبا سنويا عام‏2003‏ و‏1138‏ متر مكعب سنويا عام‏1986,‏ ووفقا للتقرير‏,‏ فإن نهر النيل يمد مصر بحوالي‏55.5‏ مليار متر مكعب بما يمثل حوالي‏86.7%‏ من إجمالي الموارد المائية المتاحة في مصر عام‏2006,‏ ومن المتوقع أن تنخفض مساهمته في إجمالي الموارد المائية المتجددة المتاحة في مصر إلي‏80.5%‏ عام‏2017.‏
وسوف تكون حجة مصر أقوي أمام دول حوض النيل‏,‏ وأمام دول العالم إذا ما أضافت إلي احتياجاتها جهودا جادة من خلال الاستخدام الأفضل والأكثر رشادة لمياه النيل‏,‏ والبحث عن مصادر جديدة للمياه سواء من خلال تكنولوجيا إعادة الاستخدام‏,‏ أو تكنولوجيا تحلية المياه‏.‏ ومثل هذه المهمة مطروحة علي مصر في كل الأحوال‏,‏ وسواء نجحنا في إقناع دول الحوض بحقنا في الحصة المقررة لنا بحكم الاتفاقيات السابقة‏,‏ أو حتي نجحنا في العمل المشترك معها من أجل زيادة حصص جميع دول الحوض من خلال مشروعات مائية مختلفة‏,‏ أو فشلنا في هذا وذاك فإننا نحتاج إلي نظرة فاحصة إلي احتياجاتنا المائية تجمع ما بين إضافة موارد جديدة‏,‏ والحفاظ علي الموارد القائمة والاستخدام الأفضل لها‏.‏ فالثابت أن مصر سوف تظل في حالة من النمو السكاني لفترة طويلة مقبلة‏,‏ كما أن احتياجاتها التنموية المتصاعدة للمياه علي ضوء السعي لتحقيق معدلات مرتفعة للنمو تقطع بأننا نحتاج إلي أكثر مما هو متاح حاليا‏,‏ وهو الذي يجب أن نحافظ عليه ونضيف له أيضا‏.‏
المسألة هكذا معقدة ومتشابكة الحدود والأطراف‏,‏ بعضها يكمن داخلنا‏,‏ وبعضها الآخر في علاقتنا مع دول حوض النيل‏,‏ وبعضها الثالث يوجد مع دول العالم التي لها دخل في كل القضايا العالمية‏,‏ فلا يوجد حل بسيط أو سهل‏,‏ وفي مثل هذه الحالات المركبة لا ينفع مع الموضوع إلا التفكير الهادئ والمتأني والبعيد عن نوبات الحماس التي عندما تخرج عن الحد فإنها كما يقال تقود إلي الضد مما نريد ونرغب‏,‏ مع يقين داخلي بأن لدينا خيارات مؤجلة يجب ألا نشغل أنفسنا بها حاليا في نهاية الأمر‏,‏ مادامت المسألة تتعلق بأمننا القومي‏.‏ وحتي نفلح فيما نحن بصدده فربما يحتاج الأمر إلي حشد للجهود تقوده لجنة رئاسية نافذة علي القدرات والموارد البشرية والمادية‏,‏ فقد انتهي وقت التصريحات والتصورات الأكاديمية‏,‏ وجاء وقت عمل الخبراء الذي نرجو ألا ينتظر طويلا‏!!.‏
[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.