في واشنطون.. وأمام نفس المائدة التي شهدت توقيع مصر وإسرائيل علي معاهدة السلام بينهما، عام 1979 جلس الإسرائيلي: »شيمون بيريز« والفلسطيني: »محمود عباس« للتوقيع علي اتفاق إعلان المباديء 13سبتمبر1993 في ضيافة، وتحت سمع وبصر، الرئيس الأمريكي آنذاك: »بل كلينتون«، الذي وقف يتابع المشهد التاريخي متوسطاً الزعيم الفلسطيني: »ياسر عرفات«، ورئيس الحكومة الإسرائيلية:»إسحق رابين«. كان وجه »عرفات« ينضح سروراً، وسعادة.. كأنه في ليلة زفافه إلي »سهي«! وكان ينوي قبل، وبعد، التوقيع علي الاتفاق الفلسطيني/الإسرائيلي أن يلقي بنفسه كعادته مع كل ضيوفه أو مضيفيه في حضن »كلينتون«، و»رابين«، و»بيريز« توطئة لإغراق خدودهم الواحد تلو الآخر بقبلاته الساخنة، والشهيرة.. لولا أن رجال المراسم في البيت الأبيض قطعوا الطريق علي تدفق قبلاته، عندما اختاروا كلماتهم بدقة متناهية، وبذلوا كل ما تعلموه وحفظوه من آداب وفنون الدبلوماسية العريقة، في محاولتهم لإقناع الزعيم الفلسطيني بالاكتفاء بمصافحة يد الرئيس الأمريكي »كلينتون« ويد رئيس الحكومة الإسرائيلية »رابين« ويد وزير خارجيته »بيريس« بدلاً عن القبلات.. بزعم أن الرأي العام الغربي والأمريكي .. بصفة خاصة لا يستسيغ القبلات التي يتبادلها الرجال.. حتي لا يسيء البعض معناها(..). وقف »رابين« متجهماً، كأنه نادم علي ما تم الاتفاق والتوقيع عليه مع الفلسطينيين! وألقي رئيس الحكومة الإسرائيلية كلمة قصيرة جاء فيها: [إن التوقيع علي الاتفاق لم يكن سهلاً بالنسبة لي كجندي خاض حروب إسرائيل، كما لم يكن سهلاً أيضاً بالنسبة لليهود! ورغم هذا.. فأود أن أقول للفلسطينيين: إن مصيرنا يجبرنا علي العيش معاً، علي نفس الأرض. وإذا كنا قد حاربناكم .. فإننا نقول لكم الآن بصوت قوي وواضح: هذا يكفي. ووداعاً للسلاح]. وجاء الدور علي »عرفات« ليرد علي تحية »صديق اليوم« و»عدو الأمس« بتحية أقوي وأعمق قائلاً: [إن ممارسة شعبنا لحقه في تقرير مصيره، لا يعتبر انتهاكاً لحقوق جيرانه ولا يمثل اعتداءً علي أمنهم وسلامهم]. البعض اعتبر ما سمعه بلساني العدوين الصديقين، فتحاً في تاريخ العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. والبعض الآخر أصيب بالذهول، وأكد متشائماً: [ هذا الانقلاب علي كل ما كان حصيناً و مصوناً.. لن ينتهي علي خير. ولابد له من ضحية أو ضحايا]. السخط العربي علي »اتفاق المباديء« بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حمل الكثير من الغضب علي »عرفات« شخصياً باعتباره »العراب« الذي يغيّر ثوابته بسهولة تغييره جواربه! وطالب كثيرون باغتيال »أبو عمار« أو علي الأقل عزله وطرده وسحب كل صلاحياته وسلطاته! المحللون العسكريون الاستراتيجيون هنا وهناك رشحوا »عرفات« ليقدم دمه تضحية لتوقيع الاتفاق مع الإسرائيليين.. باعتبار أن »أبو عمار« انفرد بالقرار ولم يأخذ رأي أو آراء الجماعات، والمنظمات ، والعواصم المعنية بالشأن الفلسطيني باعتبارها: ملكية أكثر من الملك نفسه! المتخوفون علي »عرفات« من همجية التطرف الأعمي الفلسطيني، قارنوا بين مصيره ومصير زميله الإسرائيلي: إسحق رابين. فالرجل كما تصوّر هؤلاء لا خطر، ولا خوف، عليه من تطرف أعمي أو معارضة حزبية. فإسرائيل دولة ديمقراطية، متعددة الأحزاب، يحميها جيش قوي، والقرارات المصيرية تصدرها الأغلبية و تحترمها الأقلية. ولا يعقل أن يقدم زعيم حزب العمل »رابين« علي إجراء مباحثات سلام مع الفلسطينيين، ولا أن يوقع علي أي اتفاق معهم، إلاّ بعد الاستماع إلي كل الآراء، والحصول علي موافقات المؤسسات ليحظي بأغلبية مريحة تدعم شرعية مباحثاته، و تساند صحة توقيعه علي الاتفاق. وسرعان ما تكشفت عدم صحة هذه التوقعات والتحليلات الاستراتيجية.. فمن كانوا يتوقعون ضربه، وإهانته، و إقالته، أو حتي قتله »عرفات« رأيناه هانئاً بانتصاره، وراضياً علي نفسه.. ولا يترك مناسبة إلاّ انتهزها ليطرح علي المجتمع الدولي اقتراحاته للمضي قدماً في مسيرة السلام ، وتوقعاته للتعاون الشفاف بين الجانبين المتصالحين من أجل التوصل معاً إلي إنهاء العديد من المشاكل مثل: وضع مدينة القدس، و حق العودة للفلسطينيين المغتربين.. وغيرهما. أما الثاني »رابين« الذي كانوا يستبعدون أي مساس به من قريب أو بعيد.. باعتباره يرأس حكومة إسرائيل، الدولة الراسخة بجيشها القوي، و تعدد أحزابها، و تعاظم صلاحيات مؤسساتها.. فاجأنا بصمته، و قلة تنقلاته، وإذا أضطر إلي الحديث.. سمعناه يركز فقط علي »الأمن« وضرورة تثبيته، وأهمية توفيره في طول البلاد وعرضها لمواجهة أي أخطار يمكن أن تتعرض لها داخلياً أو خارجياً! .. وأواصل غداً.