مساء يوم 4 نوفمبر 1995، وفي ميدان »ملوك إسرائيل« أكبر وأشهر ميادين مدينة تل أبيب احتشد ما يقرب من 130ألف مواطن للمشاركة في »لقاء محبي السلام« الذي دعا إليه حزب »ماباي« احتفالا بالاتفاق علي »إعلان المباديء« بين الفلسطينيين و الإسرائيليين.. الذي تم التوقيع عليه في واشنطون وحضور الزعيم الفلسطيني: »عرفات« ورئيس الحكومة الإسرائيلية: »رابين«، تحت سمع وبصر مضيفهما الرئيس الأمريكي: »بل كلينتون«. جاء هذا اللقاء الجماهيري رداً من حزب »رابين« الحاكم، علي أحزاب المعارضة اليمينية المتطرفة في تعصبها الأعمي ليهوديتها، وكراهيتها المزمنة لغير اليهود التي رفضت اتفاق السلام مع الفلسطينيين، ونددت ب »رابين«، و »بيريز« و بكل من شارك، أو ساهم، أو أيد هذا الاتفاق! لم يكتف معارضو السلام باعلان رفضهم له، وإنما دفعوا بالمسيرات الضخمة إلي الشوارع للتنديد برئيس الحكومة الذي وصموه ب »الخيانة« وطالبوا بحرقه وقتله عقاباً له علي »عمالته« للعرب. التهديد باغتيال »رابين« لم يكن سراً. وإنما كان مكتوباً في لافتات ضخمة رفعت فوق رءوس مشاة المسيرات في شوارع تل أبيب وأمام منزل رئيس حكومتها.. كما بثته أجهزة الإعلام العالمية بالصوت والصورة ليسمعه ويراه الملايين في العالم. رغم الإعلام والإعلان عن مشروع اغتيال »إسحق رابين« إلاّ أن أجهزة الشرطة والاستخبارات الإسرائيلية لم تبد أدني قلق علي حياة رئيس الحكومة المهدد بالقتل، كما لم تعترض بكلمة واحدة علي عقد »لقاء السلام« في الميدان الكبير الذي سيلقي »رابين« فيه خطاباً وسط عشرات أو مئات الآلاف ويصبح تحت رحمة أي سلاح ناري أو سلاح أبيض في يد متطرف إرهابي اقترب منه! افتتح »لقاء السلام« بكلمة ألقاها مهندس الاتفاق مع الفلسطينيين: »شيمون بيريز«، بعدها وقف »بطل السلام الإسرائيلي« إسحق رابين ليلقي خطابه المنتظر من ال130ألف نسمة تجمعوا في الميدان الكبير منذ ساعات عديدة. بصوته المخنوق من شدة تأثره بحرارة الاستقبال قال »رابين«: [ لقد حاربت، وقاتلت، زمناً طويلاً وحروباً عديدة.. طالما لم تتح أمامنا فرصة للسلام. والآن فقط.. أعتقد في وجود هذه الفرصة. علينا أن ننتهزها من أجل سلام الجميع. لقد عثرنا علي شريك للسلام »منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة عرفات« الذي كان عدواً لنا بالأمس، ثم توقف الآن عن القيام بالهجمات الإرهابية (..) . بالنسبة لإسرائيل.. فليس لديها طريق بلا معاناة أو عقبات.. لكن طريقها إلي السلام هو بالقطع أفضل وأسهل من طريق الحرب]. ودوي الميدان بالتصفيق.. وعلا صوت الموسيقي والأناشيد خاصة » أنشودة السلام« التي كانت ممنوعة في الجيش الإسرائيلي بقرار قديم من رئيس الأركان السابق الذي تصادف أنه نفسه:»إسحق رابين« الذي شارك فيما بعد جماهير »لقاء السلام« في التغني بكلماتها! إحمرّ وجه »رابين« من شدة تأثره بما يسمعه بأصوات عشرات الآلاف من المحتشدين أمامه، و من حوله. وانحني إلي أقرب الواقفين إلي جواره »جان فريدمان« وصارحه بمشاعره قائلاً: [إنني أعيش حالياً أسعد ساعة في عمري]. بعدها.. نزل »رابين« درجات المنصة، وتوجه إلي مكان سيارته، حيث وقف في انتظاره لأكثر من ساعتين شخص لم يلفت استمرار وقوفه نظر أحد رجال الأمن، كما لم يهتم أحدهم بسؤال الشخص المريب عن سبب انتظاره إلي جانب سيارة رئيس الحكومة! المهم.. فور وصول »رابين« إلي السيارة.. سارع المجهول إلي إخراج مسدسه من جيبه، وأطلق ثلاث رصاصات أصابت رئيس الحكومة الإسرائيلية إصابة قاتلة. أُغتيل »إسحق رابين« في »ليلة عرس السلام« الذي كان يسعي إلي تحقيقه مع »شريكه« الفلسطيني:»ياسر عرفات«. وكان المنتظر أن يواصل أنصار السلام في إسرائيل المسيرة التي بدأها »رابين« وفقد حياته عقاباً له عليها، لكن الذي حدث أن الرجل مات »فطيساً«.. و »هباءً«. فلا السلام تحقق.. .. ولا أحد من دعاته، وأنصاره، وأبواقه الذين بكوا عليه سُمع له صوت.