وكما عودنا في معظم مقالاته فإن الكاتب الأمريكي توماس فريدمان غالباً ما يذهب لأبعد ما يمكن التفكير فيه، إنها لعبته المفضلة، وهي ذاتها ما أكسبته شهرته في عالمنا العربي الذي استمرأ التعامل مع ما يكتبه باعتبارها نبوءات تكاد تلامس الحقيقة. ولعله في ذلك ليس وحده، فقبله كان هينتنجتون وفكرته عن صدام الحضارات، وفوكوياما عن نهاية التاريخ، والمحافظون الجدد عن العصر الأمريكي الجديد، وكوندليزا رايس عن الفوضي الخلاقة، وإدارة بوش الابن عن الشرق الأوسط الكبير، النسخة المنقحة من فكرة عزرا وايزمان عن الشرق الأوسط الجديد. ثم إدارة أوباما وأفكار هيلاري عن إعادة رسم خرائط المنطقة بالتقسيم إلي كانتونات صغيرة متصادمة المأخوذة عن الأمريكي الصهيوني العتيد برنارد لويس. ولعلها جميعاً أفكار تم اختبارها تاريخياً علي أرض الواقع بما لاقته من مقاومة شعبية شرسة أخذتها جميعاً إلي الظل والتلاشي بفضل ثورتي يناير ويونيو في مصر، وبفضل الربيع العربي وما أحدثه من حراك دخلت بمقتضاه الشعوب العربية إلي معادلة السياسة بقوة، لعل من تداعياتها ما نشهده اليوم في الجزائر والسودان وموريتانيا. في مقاله المنشور 19 مارس الماضي في ال »نيويورك تايمز» بعنوان Beware the Mideast's Falling Pillars احذروا أعمدة الشرق الأوسط المتساقطة »يقول: إن التغييرات الخارجة عن سيطرة قادة المنطقة تحفز بزوغ شرق أوسط جديد. فعلي مدي نصف القرن الماضي، تشكلت سياسة الشرق الأوسط من خلال خمس ركائز أساسية، جميعها تنهار الآن. فهناك شرق أوسط جديد يزدهر - لكن ليس بالضرورة كما تصوره الناس في التسعينيات. ثم راح يعدد الأركان: الركن الأول المنهار هو دور الولاياتالمتحدة، فالسياسات الآن ترسمها التغريدات علي تويتر بديلاً للدبلوماسية الأمريكية التي طالما أدت دورا مهماً في تشكيل سياسات المنطقة، لكنها لم تعد موجودة، فليس لها سفراء في السعودية ولا في مصر أو العراق أو الإمارات أو تركيا أو الأردن، أما السفير الأمريكي في إسرائيل، محامي الإفلاس السابق لدي دونالد ترامب، فهو مفتون بحركة المستوطنين اليهود المتطرفة، لدرجة أنه أصبح بوقا دعائيا لا دبلوماسيا». ويشير فريدمان إلي أن »الركن الثاني الذي كان يقوم علي حل الدولتين، استبدل اليوم بجهد أمريكي إسرائيلي لتحقيق أفضل حل متوفر لدولة واحدة، ما يعني تحكما دائما في الأمن في الضفة الغربية والقدس الشرقية مع شكل من الحكم الذاتي الفلسطيني». ويضيف »الركن الثالث يتعلق بالحكومات العربية التي كانت تضمن دائما وظائف لسكانها في البيروقراطية والخدمات الأمنية، ولم تعد قادرة علي ذلك اليوم مع انخفاض أسعار النفط وارتفاع عدد السكان، تحاول كل دولة عربية تقريبًا البحث عن كيفية التخلص من موظفي الحكومة والخدمات». أما »الركن الرابع الذي انهار هو فقدان الحكومات السيطرة علي تدفق المعلومات، ففي الماضي كانت المعلومات تتدفق من القمة إلي القاع، وذهب هذا كله، واستبدل المواطنون معلومات الحكومة بتويتر وفيسبوك وواتساب، فزمن التحكم في المعلومات مضي». ويشير إلي أن »الركن الخامس الذي انهار هو دور الرجل المتسيد للمرأة أو النظام الأبوي، الذي كان فيه الرجل يتحكم في المرأة من خلال الأعراف الدينية والثقافية، إلا أن حالات الهروب الأخيرة وجهت رسائل للكثير من النساء العربيات اللاتي لا يردن البقاء تحت ولاية الذكور». وفي تقديري فإنه محق فيما قرأه من ظواهر في الإقليم هي ذاتها تعبير عن واقع عصر بأكثر مما هي سقوط لأركان قامت عليها سياسات الشرق الأوسط، الذي راح يتحدث عنه باعتباره ظاهرة اجتماعية لا دول وأنظمة ومؤسسات وحركة شعوب وتفاعلات أزمات ورؤي يحكمها إرث ثقافي وتاريخي يعرف جيداً ماذا يتوجب عليه فعله تجاه تحولات الفكر والسياسة حوله وفي العالم بأثره. ثم إن حركة التاريخ لا تحكم بمعطيات الواقع البادي علي سطح الأحداث وحده، ولا بتوافقات تفرضها ظروف الاقتصاد ومواءمات السياسة، فعند الجد تتغير المعادلات ويتم استدعاء التجارب والإرادات، وتقوم كل الأرصدة الثقافية والنضالية للشعوب دفاعاً عن كياناتها وحقوقها ومستقبل دولها ومنطقتها. ولعل فريدمان كمن سبقوه وأشرنا إليهم في صدر المقال، قد استنام إلي أن شعوبنا تحصيل حاصل هي مفعول به مطلق، لا فرصة تاريخية له ليبدل موقعه من المفعول إلي الفاعل، أو حتي المقاوم لما يراد له ولا يرضيه أو يرفضه. ثم من قال إن فرضيته لهذه الأركان الركائز الخمسة صحيحة علي إطلاقها، أو هي نافذة بمجرد أن رآها سيادته هكذا، أو لأن ترامب ونتنياهو قررا بالنيابة عنا ذلك. وللأمانة فأنا أوافقه بأن الشرق الأوسط الحالي مرشح للسقوط، فما عاد يرضينا، فقد ضاقت خرائطه السياسية علي حركة الشعوب وتطلعاتها، وما ثورتا الجزائر والسودان ورفض مصر الانضمام إلي الناتو الأمريكي - العربي إلا مثال.