أثار هذا الكاتب الأمريكى جدلاً بغير حدود، حتى إن هناك من ينسب إليه «المبادرة العربية» برمتها، وأنها كانت صدىً لواحدة من مقالاته المحورية وكتاباته المستفزة التى تحرض على التفكير وتدعو إلى التأمل، كذلك فإن لقاءه بمسؤول عربى كبير كان بمثابة السبب المباشر لظهور تلك المبادرة التى جعلتها قمة «بيروت» مبادرة عربية شاملة لا تنتسب لبلد بعينه ولكنها تعبر عن موقف عربى عام أصبح الآن شعارًا يتردد، وهناك من يدعو إلى استمرار وجوده وهناك من يطالب بالرجوع عنه فى ظل جرائم «إسرائيل» المستمرة ومذبحتها الدامية التى ارتبطت بمحرقة «غزة». ول«توماس فريدمان» صاحب العمود الشهير فى الصحافة الأمريكية كتب أربعة، أولها صدر عام 1989 بعنوان «من بيروت إلى القدس» والثانى بعده بسنوات عشر تحت عنوان «ليكسس وشجر الزيتون» ولكن أهم كتبه على الإطلاق هو الذى صدر عام 2005 بعنوان «إن العالم مسطح»، وتعود علاقتى بهذا الكاتب المثير للجدل إلى ما يقرب من خمسة عشر عامًا عندما دعانى «منتدى دافوس» فى نهاية يناير 1995 متحدثًا حول موضوع «الدين والسياسة فى الشرق الأوسط»، وذلك فى افتتاح جلسات المنتدى، يومها تلقيت اتصالاً هاتفيًا من السيد «زلامان شافال» السياسى الليكودى الإسرائيلى يدعونى فيه إلى لقاء فكرى فى إحدى أمسيات «دافوس» بحضور عدد من كبار المثقفين من مختلف دول العالم، وفى تلك الأمسية التقيت لأول مرة بالسيد «توماس فريدمان» الذى كان اسمًا لامعًا فى سماء الصحافة الأمريكية بعموده الشهير ومواقفه المعادية للعرب والتى تعكس يهوديته بشكل غير مباشر على اعتبار أنه ليس كل يهودى معاديًا للعرب بالضرورة، وقد مضت الأيام ولم أر «توماس فريدمان» إلا بعد ذلك بعدة سنوات عندما زار «القاهرة» وطلب مقابلتى وحضر إلى مكتبى فى «مجلس الشعب» وأمضى معى وقتًا طويلاً فى حوار متعمق حول «المبادرة العربية» والدور المصرى ومستقبل المنطقة، وأذكر أنه قال لى يومها إن حادث 11 سبتمبر 2001 وضرب «المركز التجارى» فى «نيويورك» يمثل بالنسبة للأمريكيين مثلما يمكن أن يمثل للمسلمين ضرب «الكعبة المشرفة» بالقنابل! ويومها اندهشت لهذا التشبيه الغريب وشعرت أنه مثلما نحن متهمون بالتطرف فكريًا فإن لديهم على الجانب الآخر تطرفًا لا يقل سطوة وتأثيرًا. ويجب أن أعترف هنا أن «توماس فريدمان» يختلف عن غيره من رموز الصحافة المعادية للعرب والمسلمين، إذ إن لديه قدرًا لا بأس به من الفهم للمنطقة والمتابعة التاريخية المستمرة للصراع العربى الإسرائيلى بجوانبه المختلفة، فضلاً عن أن ذكاءه الحاد يجعله قادرًا على وضع السم فى العسل، واستدعاء التشبيهات المثيرة وخلط الأوراق عند اللزوم أيضًا، كما أن لديه غرامًا خاصًا بإطلاق البالونات السياسية للاختبار ومتابعة ردود فعلها أملاً فى أن يتمكن من فهم أعمق للشخصية العربية وأن يقدم خدمات استطلاعية لبلاده وللدولة العبرية معها، وعلى الرغم من شهرته الواسعة واسمه المعروف إلا أنه قادر على أن يغيب عن الساحة أحيانًا بشكل متعمد لأسباب تتصل بأسلوبه فى التفكير وقدرته على التعبير، وأذكر أنه جاء أيضًا مرة سابقة إلى «القاهرة» مدعوًا من «المنتدى الاقتصادى» والتقى عددًا من المثقفين - كنت واحدًا منهم - وقد راعنى كثيرًا فهمه الدقيق لمجريات الأمور، وطريقته غير التقليدية فى العرض إلى جانب قيامه بعملية تحريض تجعل المتحدث إليه ينصت باهتمام ويرد عليه فى موضوعية يفتقدها هو نفسه بسبب ميوله السياسية ووجود أجندة فكرية لديه تجعله دائمًا يتحرك ووراءه زخم من المعلومات وأمامه رؤية يسعى للوصول إليها، إنه «توماس فريدمان» كاتب العمود فى الصحافة الأمريكية، وصاحب الأفكار الاستثنائية على الساحتين الدولية والإقليمية فى العقدين الأخيرين، ولكن تظل «المبادرة العربية» قريبة منه مرتبطة به فقد بشر لها بمقال قبل صدورها من عاصمة عربية مهمة ثم تحولت فى النهاية إلى خيار عربى تبناه مؤتمر للقمة حتى اكتسبت اسمها منسوبة إلى العرب كلهم وليست منتسبة إلى «توماس فريدمان» ومدرسته الاستخباراتية!