يرتبط الزهد في أذهان البعض بجوانب شكلية لا علاقة لها بحقيقته ، وقد يتوهم بعض الناس خطأ أنه رديف الفقر أو حتي الفقر المدقع ، فالزاهد لدي بعضهم شخص بالضرورة قليل المال ، وربما قليل الحيلة ، وربما رث الثياب أو مخرقها ، صوته لا يكاد يبين ، ويده لا تكاد تلامس مصافحها ، ثم تطور الأمر إلي سلبية أشد بهجر العمل ، وربما ترك الدراسة العلمية أو عدم الاكتراث بها ، والخروج من الدنيا بالكلية إلي عالم أقرب ما يكون إلي الخيالات الخاطئة منه إلي دنيا الواقع ، في تعطيل مقيت وغريب وعجيب وشاذ للأسباب، مع أن ذلك كله شيء والزهد شيء آخر. وقد قال أهل العلم : ليس الزاهد من لا مال عنده، الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ما ملك قارون ، وسئل الإمام أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) : أيكون الرجل زاهدًا وعنده ألف دينار ؟ قال : نعم ، إذا كان لا يحزن إذا زادت ولا يفرح إذا نقصت ، ولذا كان من دعاء الصالحين اللهم اجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا ، وعن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)أن ناسًا من أصحاب النبي (صلي الله عليه وسلم) قالوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ ، قَالَ : أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ به ، إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر»، فلما سابقهم الأغنياء في التسبيح والتهليل والتكبير، وكلموا رسول الله (صلي الله عليه وسلم)في ذلك قال لهم (صلي الله عليه وسلم) »ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»، فما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا ، وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل. لا شك أن النظرة الخاطئة للزهد جرت إلي السلبية والاتكالية والبطالة والكسل والتواكل والتخلف عن ركب الأمم ، مع أن ديننا هو دين العمل والإنتاج والإتقان والأخذ بالأسباب ، يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : » لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَي اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً»، فهي تغدو وتروح ضربًا في الأرض وأخذًا بالأسباب. وقد جمع القرآن الكريم بين من يضربون في الأرض أخذًا بالأسباب ومن يجاهدون في سبيله سبحانه ، فقال (عز وجل) في سورة المزمل : »عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَي وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، ويقول (صلي الله عليه وسلم) : » السَّاعِي عَلَي الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ» ، ولما رأي أصحاب النبي (صلي الله عليه وسلم) رجلاً قويًّا جلدًا ، ورأوا من جلده ونشاطه ما أعجبهم ، فقالوا : » يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : إِنْ كَانَ يَسْعَي عَلَي وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَي عَلَي أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَي عَلَي نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَي عَلَي أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَي تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ». فالإسلام قائم علي التوازن بين حاجة الروح وحاجة الجسد ، حيث يقول الحق سبحانه : » يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَي ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، وَكَانَ سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّي الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَي بَابِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : »اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ، وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتِنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ». فالزهد الصحيح ليس قرينًا للفقر، بل إنه قد يكون قرين الغني، ليملك الإنسان ثم يزهد، فهو زهد الغني، وليس زهد المعدم، كما أن الزهد لا يتنافي مع الأخذ بالأسباب، فالأخذ بالأسباب شيء والزهد شيء آخر، يتكاملان ولا يتناقضان، وعندما قَالَ النَّبِيِّ (صلي الله عليه وسلم) : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً فقَالَ (صلي الله عليه وسلم): ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ).