علمونا من صغرنا ان نأخذ بالأسباب ونعتمد عليها.. قالوا لنا »قرشك هو الذي ينفعك«.. وغرسوا فينا ان الشهادة سلاح وان الانسان بدونها ضعيف لا يملك سنداً. وكبرنا ونحن نظن ان المال لا يأتي إلا بالجد والاجتهاد، وأن الشفاء لا يتم إلا لو تعاملنا مع أفضل طبيب وأغلي دواء.. وبمرور الوقت تأصلت الفكرة وانقطعت في داخلنا الصلة بين الأسباب وبين خالق الأسباب.. فاعتمدنا عليها ونسينا أو تناسينا أن الله هو الذي يجعل الاسباب تنجح أو تفشل! هذه الحقيقة أصبحت واقعا نعيشه.. نصحو صباح كل يوم وترتيباتنا كلها تعتمد علي ملكاتنا وقدراتنا وعلاقاتنا في انجاز الاشياء.. وقطع معظم الناس الصلة بين الانجاز وبين مشيئة الله وقدرته فلم يجعل لها مكانا في دنيا الماديات التي نعيشها حتي أصبح التفكير في الاسباب الغيبية للانجاز دربا من الوهم والخيال.. بينما الصورة التي ينبغي ان يكون عليها أي مؤمن بالله تعالي مدبر الكون غير ذلك تماما.. وانظر إلي ما فعل أفضل الخلق عند الله محمد رسول الله عندما بدأ الإعداد للهجرة من مكة إلي المدينة. فقد أخذ بكل الأسباب المادية التي تؤمن له نجاح رحلته التي أمره الله بها وكأن لا يقين.. وبعد أن انتهي من الأسباب واختار دابته ووضع خطة الخداع ومضي مع صاحبه تحول إلي يقين تام علي الله وكأن لا أسباب. كثير من الناس لديهم العذر وأنا منهم لاننا بالفعل نشأنا في بيئات تعلي قدر الأسباب المادية. فالله اخفي قدرته وراء الأسباب وامرنا بالأخذ بها.. ولكنه لم يأمرنا بالاعتماد عليها.. غير اننا اسقطنا هذا الجزء الأخير.. وأصبحنا مثل أهل الغرب يأخذون بالأسباب ويعتمدون عليها دون أن ندرك الفرق بيننا كأصحاب ايمان وبينهم. وأذكر ان أحد اصدقائي وكانت والدته تعاني من مرض السرطان قد انهي اتفاقه مع الطبيب لاستئصال جزء من جسدها. وكان في حالة من الخوف واليأس علي حياتها وقبل الجراحة بيومين استمع في حلقة تعليم إلي شرح عن حديث الرسول صلي الله عليه وسلم »داووا مرضاكم بالصدقة« وقد اخذ هذا الحديث مكانه في قلب صديقي حتي أصبح علي ثقة بأن هذا السبيل سيكون الأفضل في علاج والدته.. وفي ليلة واحدة أخرج صدقات تعادل خمسة أضعاف قيمة الجراحة التي اتفق عليها في المستشفي الاستثماري الكبير. كان يذهب إلي المحتاجين في بيوتهم يطرقها ويقدم لهم مبالغ ويسألهم الدعاء لوالدته المريضة.. والمعني ليس في قيمة ما أنفق ولكن في يقينه بأنه يمضي في الطريق الصحيح للعلاج.. ورغم ذلك اقنع والدته باجراء الجراحة وكأنه لا يقين.. وذهل الطبيب وهو يتابع صور الاشعة التي تسبق العملية.. لانه لم يجد اثرا للمرض حتي ظن انهم ابدلوا المريضة. وكانت مفاجأة مذهلة للابن وللأم وللطبيب الذي لم يصدق نفسه واخبره الابن وهو يبكي بما قدم من صدقات بنية شفاء والدته. وأصبحت هذه الحادثة مثار دعوة صادقة للناس بأن يأخذوا بالاسباب الغيبية للشفاء. فلا يكفي ان تذهب للطبيب وان تتعاطي أفضل علاج ولكن الأهم ان تؤمن بأن الله هو الذي يشفي وهو الذي يجعل في هذا الدواء الفاعلية. فيكون الاعتماد عليه هو وليس علي الدواء. ومثلما نقول إن الله يشفي الأمراض علينا أن نؤمن ونقول إنه لا يشفي إلا الله. ولكنه يخفي قدرته وراء الأسباب. والرزق أو المال ايضا له أسباب غيبية ولكن قليلا ما نعتمد عليها. فالعمل والاجتهاد قد يأتيان بالرزق ولكن الاستغفار يأتي به وصلة الارحام تأتي به. وتقوي الله والخوف منه تأتي به. فمن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ولكننا نغلق معظم الابواب الغيبية ونقف أمام الباب المادي وهو العمل فنطرق عليه بكلتا يدينا وكأنه لا سبيل إلي الرزق إلا من خلاله. نريد أن نعود إلي الله.. وأن نثق فيه حتي تنجح حياتنا.