قاتل الله الإعلام المُغرض ..أقصد الإعلام العالمي والغربي بالذات.. ولا أستثني من ذلك الإعلام العربي والمصري.. فكم من الجرائم يقترفها الإعلام في حق البشرية عندما تحركه الاهواء والأغراض والافكار والصور النمطية المسبقة!!.. ذهبتُ الي إيران وأنا أتصور ، بناء علي ما قرأته ورأيته وسمعته عبر مختلف وسائل الإعلام المقرؤة والمسموعة والمرئية ، أن شوارع العاصمة طهران والمدن الاخري تزدحم ب"الملالي" (رجال الدين الشيعة) العابسين المكفهرة وجوههم الذين يرفعون العصي الغليظة ليهووا بها علي أُم رأس أي امرأة لا ترتدي التشادور (العباءة التقليدية الكاسية التي لا تُظهر إلا الوجه واليدين) ..كما توقعت أن أري الناس منكسرين ومنكسي الرءوس عن خوف ومذلة ورهبة من حراس الثورة القائمين علي فرض شروط وطقوس الدولة الدينية علي الناس بالقهر والقمع..ذهبتُ ايضا وأنا أردد بيني وبين نفسي مطلع قصيدة للشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم كتبها تحية للثورة الايرانية (1979) وغنتها المطربة الوطنية "عزة بلبع"..يقول مطلع القصيدة وعنوانها (الخالق الناطق) "إيران يا مصر زينا ..كان عندهم ما عندنا..الدم هو دمنا ..والهم من لون همنا..تمسك ودانك من قفاك ..تمسك ودانك من هنا ..الخالق الناطق هناك ..الخالق الناطق هنا"!!..وكان نجم يعني أن كل ما كان في إيران الشاه قبل الثورة الاسلامية من قمع وفساد وسحق للفقراء ..كان يوجد عندنا مثله تماما أيام حكم أنور السادات ،صديق الشاه ..ولكن بينما تخلصت إيران من هذا الإرث الفظيع والمهين لنظام الشاه ، وبدأت نهضتها بقوة في مختلف المجالات ، أبقي نظام حسني مبارك علي تركة السادات وطورها الي ما هو أسوأ وأفظع لتنكفئ مصر علي نفسها وتتقوقع داخل حدودها حتي تقزمت وفقدت تأثيرها ونفوذها في الاقليم والعالم ..بل إن كثيرا من المصريين فقدوا الثقة في انفسهم وفي قدرة وقوة بلادهم الي حد أنهم باتوا يخشون علي وطنهم من خطر إيراني متوهم ، ويبدو أن كان سبب تحفظ البعض علي إعادة العلاقات بين مصر وإيران الي طبيعتها!!.. ما رأيته في طهران وفي الزيارة السريعة الي مدينة إصفهان ، كان كفيلا" بإقناعي بأن أقول "عفوا"..ياعم نجم ..إيران مش زينا"!!.. أول ما يسحرك في طهران ليس فقط روحها الشرقية الآسرة ، ولكن أيضا كم الأشجار والمساحات الخضراء في شوارعها ..فمعظم الشوارع تزدان بأشجار جميلة وباسقة ومنسقة علي الجانبين..وفي وسط الشارع جزيرة واسعة يظللها صفان من الاشجار علي الجانبين ويتوسطهما ممشي يحيط به شريطان من الخضرة وبه زهور رائعة ..أي أن كل شارع به اربعة صفوف من الاشجار الكثيفة..وإذا كان أحد زملاء الرحلة قد لفت نظري بعد يومين من وصولنا الي طهران الي أنه لم يشاهد ذبابة واحدة داخل الفندق أو خارجه ، وهو ما تأكدتُ منه تماما بعد ذلك ، فمن نافلة القول تأكيد أنه لم تكن في كل الشوارع التي مررنا بها ورقة واحدة ولن أقول كوم قمامة!!.. مازلتُ أحدثكم عن طهران وليس عن باريس أو نيويورك..واعرف أن الكثيرين لن يصدقونني . بل وربما يصل الامر ببعض من عارضوا زيارة الوفد المصري الي إيران حد إتهامي بأنني عميل للجمهورية الاسلامية تم تجنيدي أثناء الرحلة لأكتب هذا الكلام الجميل "المدفوع مقدما" عن طهران وإصفهان التي لم تكن تقل نظافة أو جمالا أو خضرة عن طهران..ولكنني أحدثكم وأنا في غاية الحزن والاسي للحالة المزرية التي صارت إليها عاصمتنا ومدننا الكبيرة الاخري ..وكنتُ ولازلت كلما رأيت عاصمة أو مدينة جميلة ألعن في سري نظم الحكم العسكرية والبوليسية والفاشية ، وأخص بلعناتي نظام حسني مبارك الذي جمع بين أسوأ صفات هذه النظم فخرب ودمر كل مقدرات هذا البلد العظيم بصورة منظمة وممنهجة علي مدي 30 عاما..ناهيك عن إفساد الناس وذممهم وضمائرهم وإحساسهم بالجمال والنظافة.. أما المفاجأة الاهم بالنسبة لي فكان ما لمسته من حب الشعب الايراني للحياة وإقباله عليها..بعض ايام الزيارة وافقت عطلة رسمية في إيران ,وشاهدت مع أعضاء الوفد المصري العائلات الايرانية تخرج بكامل افرادها الي الحدائق العامة وهي كثيرة وواسعة جدا..وكانت السعادة والبهجة تبدو واضحة علي وجوه الناس في الحدائق والشوارع ..أما الظاهرة التي لفتت نظري اكثر فهي أن عدد الفتيات في الشارع يفوق عدد الفتيان ..كما أن الاغلبية الساحقة من الفتيات لم يكن ملتزمات بإرتداء التشادور ..بل إنهن كن يرتدين البدل أو البنطلونات والبلوزات التي تغلب عليها الالوان السوداء ..أما غطاء الرأس فهو ليس حجابا وإنما مجرد إيشارب لا يغطي سوي الثلث الخلفي للرأس..وبقية الرأس مساحة حرة لإستعراض آخر صيحات قصات الشعر العالمية. وإذا أضفنا الي ما سبق ملاحة الوجوه وحسن القوام ستكون عناصر الجمال قد إجتمعت في شوارع طهران والمدن الاخري ، وهي الماء والخضرة والوجه الحسن.. أما في أصفهان فقد كانت العائلات تتجمع في ساحة "نقش جهان"..وهي ميدان أثري فسيح قيل لنا إنه ثالث أكبر ساحة في العالم..ومن بين المباني الاثرية المحيطة بساحة نقش جهان ، مدرسة علمية رائعة البناء شيدها عالم من جبل عامل بجنوب لبنان منذ نحو 400 عام..فقد هاجر هذا العالم وتزوج من ابنة حاكم أصفهان وأقام تلك المدرسة التي تحمل الطابع المعماري الفريد للعصرين المملوكي والعثماني.. الحديث عن الرحلة الي إيران يطول ..وإذا كنتُ قد سجلت وجهة نظري عما رأيته وأعجبني من حفاظ علي الخضرة والنظافة والإقبال علي الحياة ، فإن هناك امورا لم تعجبني أو هي مثار للكثير من التساؤلات علي الاقل ..وللحديث بقية..